تحدث عدد من المسؤولين الأمريكيين عن الانتخابات العراقية باعتبارها محطة مهمة على طريق تعزيز سيادة واستقلال الدولة العراقية. فالانتخابات تسبغ، في رأيهم، على النظام العراقي الجديد مشروعية تساعد النظام العراقي الجديد على الاسراع في بناء مؤسسات الدولة الضرورية لتوفير الأمن وحكم القانون، فإذا ما أعيد إلى العراق أمنه وهدوؤه، أمكن عندئذ سحب القوات الأمريكية منه وهو أمر بات في الآونة الأخيرة موضع بحث جدي في واشنطن. ومع انسحاب القوات الأجنبية من العراق تقف الدولة العراقية على رجليها من جديد ككيان دولي مستقل. ولكن حتى لو بقيت القوات الأمريكية في العراق لسنتين كما يتوقع نيجروبونتي السفير الأمريكي في بغداد، أو لأكثر كما يرجح بعض المحللين الأمريكيين، فإنها سوف تبقى فيه، يقول المسؤولون الأمريكيون، كقوات “صديقة” تحمي أمنه ونظامه الديمقراطي وليس كأداة للتسلط على العراق ولهدر إرادة ومصالح أهله. أي انها سوف تضطلع فيه بالدور نفسه الذي اضطلعت به في اليابان وألمانيا الغربية خلال فترة الحرب الباردة، أو بمثل الدور الذي مارسته في كوريا الجنوبية.
في هذا السياق يضع المسؤولون الأمريكيون في ادارة جورج بوش، ومعهم العديد من العرب الموالون لهذه الادارة، الانتخابات العراقية المقبلة. ولكن هل يقتنع العراقيون بهذا المنطق؟ هل يقبل العرب به فيسكتون عن الاحتلال الأمريكي للعراق؟ هل تقبل به الأسرة الدولية التي تنظر بقلق إلى الانتخابات وإلى مضاعفاتها؟
إذا كانت المقارنات تسهل اظهار الحقائق والوصول إلى العبر، فإنه من المستحسن ان يقارن العراقيون والمعنيون بحاضر العراق ومستقبله وبالتطور الديمقراطي في المنطقة بين المحطة الانتخابية العراقية المقبلة وبين محطات مشابهة في تاريخ المنطقة العربية. فالانتخابات العراقية ليست الأولى من نوعها من زاوية الربط بين توفر الحكم النيابي، من جهة، وبين مسألة السيادة الوطنية، من جهة أخرى. فلقد واجه الوطنيون في المنطقة العربية مراراً مثل هذا التدخل، وخبروا آثاره ونتائجه في العديد من الحالات.
خبر الوطنيون المصريون، مثلاً، هذا الحال في بلدهم خلال الحرب العالمية الثانية إذ كانت مصر دولة مستقلة ومكتملة السيادة بحسب معاهدة ،1936 ولكن العديد من الوطنيين المصريين كان يعتبرون انه ما بقيت القوات البريطانية في مصر، فإن الخطر على استقلالها باق وانه لن تكون لأبنائها الحرية الكافية في التعبير عن مصالحهم ورغباتهم.
أثبتت التجارب صواب هذه المخاوف، فالقوات البريطانية كانت تستخدم كأداة للضغط على إرادة المصريين، ولإجبار المسؤولين على قبول المحتل في أي أمر يمس مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية. وهكذا عندما تبنت الحكومة المصرية، تجاوباً مع مشاعر شعبية عارمة، الدعوة إلى الحياد خلال الحرب العالمية الثانية، “طلب” اللورد كيلرن سفير بريطانيا في القاهرة من الملك فاروق عام 1940 اقالة حكومة علي ماهر، وحذره في المذكرة من اعادة رئيسها إلى الحكم أو حتى تكليفه بأية مهمة في القصر الملكي كمستشار للملك. اللورد كيلرن لم يقدم هذا “الطلب” باسم بريطانيا فحسب بل أيضاً باسم “شعب مصر” الذي “لا يثق بعلي ماهر” (!) مع ان البرلمان المصري كان قد أعرب عن ثقته بحكومته عندما أيد اقتراحها بوقف العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا باعتبارها دولة معتدية دون اعلان الحرب عليها أو على إيطاليا تمسكاً من ممثلي مصر بمبدأ الحياد في الحرب.
وحتى لا يسيء الملك فاروق فهم طبيعة “الطلب” البريطاني فيظنه مجرد نصيحة، فقد أفهمه كيلرن بصريح العبارة ان القيادة العسكرية البريطانية تراقب ردود فعله أي العاهل المصري لكي تتخذ “التدابير المناسبة” فيما لو تردد في التجاوب مع “مطلب” القوة المحتلة. ولما كانت بريطانيا قد خلعت عن العرش المصري أحد أسلاف فاروق، الخديوي عباس حلمي الثاني “لأنه لم يحسن التفاهم مع السلطات البريطانية”، فإنه لم يكن من الصعب عليه ان يتنبأ بالمصير الذي سوف يصيبه فيما لو احجم عن الرضوخ لإرادة المحتل.
وخبر اللبنانيون والسوريون ما عرفه المصريون مراراً بسبب وجود قوات الاحتلال في بلادهم. من هذه الخبرات ما تعرض إليه لبنان في الفترة نفسها تقريباً. فبعد ان أجريت انتخابات نيابية خلال صيف عام 1943 انبثق عنها عهد جديد. ولما أرادت الحكومة المنبثقة عن الانتخابات شطب كل ما يتعارض مع الاستقلال من الدستور اللبناني، قامت قوات الاحتلال باعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة. ولم يفرج عن الحكومة ولا أعيدت الشرعية إلى البلاد إلا بعد ان قامت انتفاضة شعبية عارمة في البلاد وفي المنطقة العربية عموماً وإلا بعد ان وجهت الانذارات الدولية إلى سلطات الاحتلال.
ومر السوريون بالتجربة نفسها بعد سنتين تقريباً من تلك التي تعرض إليها اللبنانيون. فقد سعوا إلى اكتمال استقلالهم بعد ان انتخبوا عهداً جديداً. ولكن قوات الاحتلال التي كانت قد سايرت السوريين من قبل أملاً بكسب الوقت وحتى تتوافر ظروف افضل لإعادة تثبيت الحكم الأجنبي في البلاد، سعت إلى منع استكمال الاستقلال وتوطيده عن طريق فتح الجبهات العسكرية ضد السوريين فقصفت المدن السورية، وطال القصف البرلماني السوري رمز الديمقراطية في البلاد. ولم توقف قوات الاحتلال عدوانها على السوريين إلا بعد ان شعرت بأنها باتت على أبواب مخاطر شديدة.
في الحالات التي اشرنا إليها، وفي حالات عديدة عرفتها المنطقة العربية لم يكن الهدف من اجراء الانتخابات ومن تكوين الهيئات البرلمانية هو الافراج عن الإرادة الشعبية والتعجيل في زوال الاحتلال. بالعكس، كان الغرض هو شرعنة الاحتلال بأمل ان يتمكن المحتل من البقاء أطول فترة ممكنة. ولقد كان حظ المصريين والسوريين واللبنانيين حسناً إذ تضافرت التطورات الدولية والنضالات الداخلية التي قاموا بها هم أنفسهم، والمساندة التي تلقوها من الاقطار العربية، هذا فضلاً عن التراجع الداخلي الذي أصاب المحتلين على الخلاص من الاحتلال. ولكن هذا الخلاص لم يحصل خلال سنوات بل تم بعد ان رزحوا تحته عقوداً من الزمن. المعضلة التي يواجهها العراقيون اليوم انهم لا يواجهون قوة احتلال ارهقتها الحروب والصراعات الدولية بل يواجهون قوة لم تدب في أوصالها الشيخوخة كما كانت قد دبت في أوصال الامبريالية الأوروبية بعد الحروب الكبرى. ورغم ان ادارة بوش باتت تنظر، راهنياً، في مسألة الانسحاب من العراق كواحد من الخيارات، ولكن خيارها المفضل ما زال بسط السلام الأمريكي على الأرض العراقية بقصد تحقيق الفوائد المتوخاة من الحرب على العراق.