لعل واحدة من أكثر الإشكاليات التي ما برح يعاني منها العمل الحقوقي الانساني في عالمنا العربي هي الخلط بينه وبين العمل السياسي الحزبي، أو مقتضيات الانتماء السياسي الفكري. فما زالت الغالبية الساحقة من المنظمات الحقوقية العربية وفي عدادها منظمات حقوق المرأة تعاني من هذه الإشكالية بسبب طغيان النزعة الحزبية أو الايديولوجية لدى الناشط الحقوقي أو لدى قيادات هذه المنظمات على مقتضيات التحلي بأكبر قدر ممكن من التجرد الحقوقي المحايد النزيه.
ولعل السبب يعود في ذلك الى كون معظم هؤلاء الناشطين انما قدموا لهذا العمل من حركات وتنظيمات سياسية نضالية غالبيتها سرية ولم تعرف بيئتها أي نمو من الثقافة والتربية والتقاليد الديمقراطية الليبرالية التي تعد الحاضن الأكبر لبيئة انبثاق ونمو منظمات حقوق الانسان المتطورة كالتي برزت في الدول الغربية. وبالتالي فقد نقل جل هؤلاء معهم الى منظمات حقوق الانسان الجديدة السمات والطباع والنزعات السياسية الضيقة التي جبلوا عليها واستوطنت في نفوسهم وعقولهم ردحاً من الزمن. وكان من جراء ذلك ان جعلوا من منظمات حقوق الانسان واجهات سياسية، تماماً كنزعتهم المعروفة للسيطرة على النقابات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، رغم ما تتميز به المنظمات الحقوقية من خصوصية عامة مقدسة في رسالتها الانسانية تفترق عن أي مؤسسة مدنية.
كما ان العديد منهم من مختلف التيارات -ولا سيما الاسلامية منها- عجز عن التمييز بين أساليب واعتبارات عمله وارتباطه بمنظمات حقوق الانسان التي انشئت في المنفى لأغراض سياسية بحت للنضال والضغط على الأنظمة والتشهير بها، وانتقاله الى منظمات حقوقية شرعية جديدة تعمل من داخل الوطن في ظل أوضاع وظروف متغيرة ووفق أنظمة وقوانين مختلفة عن ظروف المنفى.
فكان ان شهدنا كيف ان الناشط الحقوقي لا يتوانى في كثير من المحطات عن التصعيد بتوظيف خطابه الايديولوجي المسيّس في خطابه الحقوقي، وهذا ينطبق على ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين لدى الناشط الحقوقي العربي.
وهو إذ يجعل من مواثيق واتفاقيات حقوق الانسان كالإعلان العالمي والعهدين واتفاقية مناهضة التمييز ضد المرأة مرجعيته في رصد انتهاكات حقوق الانسان ورفع الشكاوى ضد مرتكبيها من الأنظمة، فإنه يتجاهل هذه المرجعية العالمية تجاهلاً تاماً على صعيد حياته الشخصية ثقافة وممارسة، كما على صعيد حياته الايديولوجية والتنظيمية كما على صعيد خطابه السياسي فضلاً عن خطابه الديني ولا سيما فيما يتعلق بحقوق المرأة المقرة في تلك المواثيق حيث يضع هذه المواثيق في تعارض مع الشريعة الاسلامية الانسانية السمحاء لا يجوز الاعتداد بها أو جعلها مرجعية حاكمة.
والحال ما لم يتعامل نشطاء حقوق الانسان العرب مع مرجعية هذه الحقوق كمرجعية واحدة وكرزمة واحدة غير قابلة للانتقائية والتجزيء تبعاً لأهوائهم السياسية وتكتيكاتهم الحزبية، وما لم ينسجموا في ثقافتهم وسلوكهم السياسي الخاص والعام مع هذه المرجعية فإن إشكالية وأمراض التسييس والخلط بين العمل السياسي والعمل الحقوقي ستظل تراوح مكانها تطبع نشاط المنظمات العربية.