اليوم·· وبعد أن ودعك الأب الذي كان يكره مضغ اللبان في فم بكره، تركك وحدك تقرأ بعض ما كتبوه على الرمال، تركك تتوحد بيتمك بعد أن حج حجة الوداع، متخلياً عن كل نسائه وغنائمه، كان يعشق النساء حد الخرف، كان مثلك، أو أنت مثله، كنت تضحك حين يقول:
إن الخطيئة مثل ( ملة الصفِر ) إذا ما صدئت صفّرها ·
كنت تدرك أنه لم يكن يكتفي بواحدة، تعرف أن له واحدة في أبو ظبي، وواحدة قديمة في حماسا قبل أن يتزوج، كنتما تعشقان التفاصيل الصغيرة، كان في مقدوركما أن تعدان تغضنات الردف، لتلك المارة وحدها في سكة حارة الربينة، أو تلك التي تحمل على رأسها المضحى، العائدة بكل ضمخ التعب اليومي من النخل، من جهة الهملة، بينك وبينه ضحكات صغيرة في ساعات الغفلة، حين تتذكرها الآن، تتذكر أنه كان يعيب عليك عدم المبادرة، وأشياء كثيرة كان يفرح بها، كنت تخزّن الصور، وكان هو يستحضرها في ساعة بسطه مع رفاقه الذين غيبتهم الحياة، أو غربتهم الحياة الجديدة، لم يبق منهم اليوم الكثير، كلهم أصبحوا أشباح محاربين، ترهلت أجسادهم، وشاخت رؤوسهم، ولم يبق من حديث كشافة عمان، أو جيش تي· أو· أس أو الحروب الصغيرة في ظفار، غير الأوسمة الصدئة التي تحمل رأس الملكة، التي لا يعرفها جلهم، كان الكثير منهم لا يفرق بين رأس الملكة البرونزي، التي لا تغيب الشمس عن حدودها، وبين الصنم في الروبية الفضية الهندية·
اليوم·· تقف على تخوم مدينتك، تشاهد حركة الزمن، وتقلب الناس، تقف على خرائب الوقت، تستدعي ذلك الطفل السمين، ربيب العين لتطبع قبلة على خده، وتودعه، لأنه سبب كل هذا السفر، وهذا الوجع، عيناه·· عيناك، وذاكرته·· ذاكرتك، ما زالتا تقويان _ كما دربتهما _ على التقاط الخطأ، ومعرفة الآخرين، لم تنس أحداً كان هنا، أو مر على مدينتك، لهم أماكنهم في الذاكرة، لا يستوي من عمل بفأسه من أجلها، كمن أعمل فأسه فيها، بعضهم تسخّر له ماء العين ونظرها، بعضهم لا يستحق فتة بعرة·
ليس كل الرجال رجال هكذا تقول الحياة، وهكذا هو مهر المواقف·
من تمترس في( خرائب الصيرّي) يحمي المدينة بصدره و ببنادق قديمة، يحرسها مع ستة رجال، لا يريد منها إلا كلمة ونِعمْ لا يريد إلا كلمة الذكر تلك، وفرحة الناس، ليس كمن علق سعنه على ظهره، وشدّ شِداد بعيره، يريد النجاة·
لقد علق أحد هؤلاء الرجال الستة نياشينه على صدرك وحول عنقك قائلاً: إياك ثم إياك··
كان يخاف أن تبدّل بعد غيابه، كان يفزع أن لا تكون كما يشتهي أن يكون الرجال، كان يريد لاسمه ولبكره الطهر، وإن رحل هو هكذا فجأة، هو الآن بين عينيك، بنياشين الفخر، وعافية الرجال، لا تقدر إلا أن تكون هو، وأن تغير زي الحرس، وبنادقهم القديمة، تظل مخلصاً له ولكلماته، وفي مواقف الشدة، يتراءى لك خلف الباب وفي المنام، وخلف قرارك، تخاف من الأيام أن لا تجعلك تصبر صبره، وأن لا تظل تلك اللبنة، رطبة دوماً تحت رأسه·