يرسم القانون الدولي علامة استفهام كبيرة حول شرعية أية عملية انتخابية تجري في ظل احتلال أجنبي: فهل تعكس النتائج إرادة الشعب أم أنها تعكس رغبة المحتل؟.
وتتواصل علامة الاستفهام هذه لتشمل مرحلة ما بعد الانتخابات. هل المؤسسة، أو المؤسسات الدستورية التي تنبثق عنها وتقوم على أساسها تتمتع بالشرعية التي تمكّنها من أداء دورها أم أن شرعيتها مطعونة بالاحتلال؟. وهل إن كل ما هو قانوني هو شرعي بالضرورة؟.
بعد وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، كان لابد من إجراء انتخابات رئاسية فلسطينية جديدة، ليس لمجرد تنصيب رئيس يخلفه، وإنما لإيجاد مخرج للمأزق الذي تواجهه المساعي السياسية بعد أن ارتفع في وجه مشروع "خريطة الطريق" جدار الفصل العنصري الذي أقامه الجنرال شارون.
وبعد إدراك إدارة الرئيس جورج بوش أن الولايات المتحدة تغرق في رمال العراق المتحركة، كان لابد من إجراء انتخابات عامة ليس لمجرد تشكيل سلطة عراقية دستورية تقوم على أسس ديمقراطية، وإنما لفتح بوابة خلفية تمكّن القوات الأميركية من تبرير انسحابها في مرحلة لاحقة مع حفظ ماء الوجه.
وبعد التمديد ثلاث سنوات جديدة لرئيس الجمهورية اللبنانية العماد إميل لحود وصدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي يدعو القوات السورية (انخفض عددها إلى 16 ألف رجل) للانسحاب من لبنان، كما يدعو إلى انتشار الجيش اللبناني على طول الخط الأزرق مع إسرائيل وسحب السلاح من حزب الله، فإن الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في مطلع الصيف المقبل قد تتحول كما قال رئيس الحكومة عمر كرامي إلى استفتاء حول قرار مجلس الأمن الذي تعتبره الدولة تدخلاً غير مبرر في شؤون لبنان الداخلية.
أجرت أفغانستان انتخابات رئاسية رغم أن القتال والاقتتال فيها لم يتوقفا. رغم أن ابن لادن والملا عمر لا يزالان هناك وكذلك قوات الرئيس الأميركي جورج بوش. ويستعد العراق لإجراء انتخابات عامة رغم استمرار الاحتلال ورغم المجازر التي تحصد العشرات من الأبرياء يومياً.
والفلسطينيون الذين يعانون من وحشية الاحتلال الإسرائيلي، الذي حوّل البقية الباقية من أرضهم إلى ما يشبه قطعة الجبن السويسري، أنهوا بنجاح الانتخابات البلدية، ثم انتخبوا رئيساً جديداً خلفاً للرئيس الراحل ياسر عرفات، متجاوزين الحواجز والقيود وحتى الجدار العنصري الذي أقامته إسرائيل.
ولكن بعد مرور 15 عاماً على إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لا يزال السؤال الذي يشغل اللبنانيين هو: هل يمكن إجراء انتخابات عامة؟ وعلى أساس أي قانون؟ وهل يمكن ضمان نزاهة الانتخابات؟. ومن يوفّر هذا الضمان؟.
تفرض هذه الأسئلة نفسها على كل شفة ولسان رغم إعادة بناء الجيش وقوى الأمن الداخلي، ورغم الدور الذي قامت به القوات السورية على مدى أقل قليلاً من ثلاثة عقود، ورغم التوافق اللبناني على النظام السياسي الجديد... ورغم.. ورغم.. إلخ. مما أقرّ وشرّع وأصبح دستوراً ولكن معظمه (بعد مرور 15 عاماًَ) بقي حبراً على ورق. لا أفغانستان هي أكثر تقدماً من لبنان. ولا العراق هو أكثر استقراراً منه. ولا الفلسطينيون هم أكثر اطمئناناً من اللبنانيين. فالاحتلال الأجنبي ينخر عظام هذه المجتمعات ويفرض سلطته عليها بقوة الحديد والنار. أما لبنان فقد خرج من دوامة المحنة قبل عقد ونصف من الزمن. وتعلم من دروس تلك المحنة ما يجعله - أو ما يفترض أن يجعله - في منأى عن الارتداد على أسس الوفاق الوطني الذي ارتضاه لنفسه. أما القاسم المشترك في الانتخابات في الدول العربية الثلاث لبنان وفلسطين والعراق فهو العامل الخارجي.
فإسرائيل تحتل فلسطين احتلالاً استيطانياً، وقد جرت الانتخابات الفلسطينية تحت ظل هذا الاحتلال من جهة، وتحت عدسة المراقبين الدوليين من جهة ثانية. والولايات المتحدة تحتل العراق احتلالاً استعمارياً. وهي تشرف على الانتخابات التي ستجري في نهاية الشهر الجاري - يناير - بعد أن نصبت الحكومة المكلفة بإجرائها، وبعد أن وضعت الأنظمة والقوانين التي تتعلق بآلية إجرائها.
أما في لبنان فإن قرار مجلس الأمن الدولي 1559 جعل من الوجود السوري احتلالاً. وتناسى في ذلك أمرين على درجة كبيرة من الأهمية:
الأمر الأول: هو عيب الاحتلال الأميركي للعراق، وعيب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ودورهما المباشر وغير المباشر في العملية الانتخابية. أما الأمر الثاني فهو أن الدولة اللبنانية هي التي تتمسك بوجود القوات السورية في لبنان، الأمر الذي يسقط عن وجود هذه القوات صفة الاحتلال، دون أن يعني ذلك بالضرورة عدم تأثيرها في العملية الانتخابية.
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعتبر أن احتلالها للعراق يؤثر على صحة الانتخابات. حتى أنها رفضت عرضاً بإنهاء مقاطعة الانتخابات مقابل جدولة إنهاء الاحتلال وسحب القوات الأميركية.
ثم إنها تجاهلت بصورة تامة العراقيل التي فرضتها إسرائيل في الضفة الغربية وغزة والتي ندد بها المراقبون الدوليون للانتخابات، وتعاملت مع الاحتلال الإسرائيلي كأمر واقع. ولولا شيء من الحياء لاعتبرت هذا الاحتلال ضمانة لنزاهة الانتخابات الفلسطينية؟... إن تجاهل الخشبة في العين الأميركية في العراق، والخشبة في العين الإسرائيلية في فلسطين، جعل الولايات المتحدة لا ترى سوى القشة في العين السورية في لبنان. صحيح أن الانتخابات اللبنانية تحتاج إلى ضمانات بعدم التدخل من أية جهة بما يكفل سلامة التمثيل السليم والصحيح وبما يحقق الإرادة الحرة للشعب اللبناني، ولكن الضمانات المنشودة هي ضمانات وطنية في الدرجة الأولى. ومن الخطأ الاعتقاد أنها يمكن أن تأتي من جهة تمارس هي نفسها الاحتلال والتدخل على أوسع نطاق.
إن الاحتلال الأميركي للعراق والدور الأميركي في الهيمنة على العملية الانتخابية العراقية يجرد الاتهامات الأميركية الموجهة إلى الوجود السوري في لبنان وإلى دوره في الانتخابات اللبنانية المقبلة من أي صدقية. بل إنه يجعل من هذه الاتهامات الوجه لآخر للدور الأميركي المرفوض سياسياً وأخلاقياً في العراق... وفي المنطقة كلها. صحيح أن العراق ليس ألمانيا. وبالتالي فإن الدور السياسي للقوات الأميركية في العراق هو غيره في ألمانيا. وصحيح أيضاً أن لبنان ليس اليابان. ودور القوات الأميركية في اليابان ليس هو دور القوات السورية في لبنان. وصحيح كذلك أن عدم وجود قوات خارجية، أياً كانت طبيعة مهمتها هو من حيث المبدأ أفضل لسلامة العملية الانتخابية، إلا أن الانتقاد التجريحي للوجود السوري في لبنان الذي تمارسه دولة محتلة (للعراق) وداعمة للاحتلال (في فلسطين) يثير السخرية ويرسم علامات استفهام كبيرة حول حقيقة النوايا والأهداف. فسلامة العملية الانتخابية هنا ليست هي الهدف. الهدف كما يبدو هو الضغط السياسي على سوريا ومحاولة ابتزازها في لبنان وعبره.
ولكن لا يبدو أن أحداً مطمئن إلى أن ثمة قدراً كافياً من النوايا الحسنة يضمن وضع قانون عادل ومتوازن للانتخابات يحقق التمثيل الصحيح للإرادة الشعبية. ولا يبدو أن أحداً على ثقة بأن العملية الانتخابية ستجري دون تدخلات من هذه الجهة أو تلك، ولصالح هذه الفئة أو تلك. كذلك لا يبدو أن أحداً مستعد للمراهنة على أن يداً ما لن تمتد إلى العبث بعملية الاقتراع وصناديقها إذا بدا لها أن النتائج ليست كما يشتهي هذا الفريق أو ذاك من قصار النظر وطوال اليد.
إذا كانت الثقة الداخلية مفقودة أو هزيلة بضمان نزاهة الانتخابات، وإذا كان مبدأ استدعاء مراقبين أجانب يمسّ بالسيادة الوطنية ويصبّ الزيت على نار تدويل الأزمة السياسية الراهنة في لبنان، فهل يبرر ذلك مقاطعة الانتخابات؟ أو المطالبة بتأجيلها؟ أو التمديد للمجلس النيابي الحالي كما جرى التمديد لرئيس الجمهورية؟. وبالتالي هل يجد لبنان نفسه في وضع المستجير من الرمضاء بالنار؟. لقد أثبتت التجربة أن السلبية ليست حلاً وأنها لا توفر مخرجاً لأزمة أو علاجاً لمحنة... بل إنها تقدم للأخطاء مساحة للتراكم، وتمنح الخطائين أعذاراً لتحميل ضحاياهم كامل المسؤولية.
كان لبنان بالنسبة للديمقراطية في الشرق الأوسط واحة. فأصبح وحلاً. وكان موئلاً للأحرار وملاذاً، فأصبح يضيق حتى بحرّية أبنائه. كان يفتح قلبه للهاربين من القمع والتعسف فأصبح يفتح حدوده لهجرة الباحثين عن لقمة عيش شريفة في مشارق الأرض ومغاربها.
هناك خطأ ما، في مكان ما، أدى إلى هذا التحوّل التدهوري الخطير. فمن يبحث عن أسباب ونتائج هذا الخطأ؟... ومن يحدد المسؤول عنه؟... ومن يحاسبه؟... وكيف؟... والأهم من ذلك كله هو: كيف يوقف لبنان هذا التدهور؟ وكيف يستعيد من جديد ثقة شعبه به، واحترام العالم له في الوقت الذي بدأت فيه عملية إعادة رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط كله؟. إن الإجابة على هذه التساؤلات تتوقف على العملية الانتخابية المقبلة... وعلى نتائجها.