في الوقت الذي تدخل فيه إدارة بوش فترة ولايتها الثانية، فإن الأمر المحتم هو أنه ستكون هناك فترة تتم فيها إعادة تقييم السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فمع تولي كوندوليزا رايس شؤون وزارة الخارجية الأميركية، فإن الجميع سيكونون في حالة ترقب لرؤية ما إذا كانت الوزيرة الجديدة ستقوم بإدخال أية تجديدات على الطريقة التي تتم بها صياغة السياسة الخارجية أم لا. ومن بين المجالات التي يتوقع الكثيرون أنه سيحدث فيها قدر من التغيير، المجال الخاص بالسياسة الأميركية تجاه إيران. وقد أتيح لي أن أمضي يوماً في واشنطن مستمعاً إلى بعض الخبراء في الشؤون الإيرانية، وبعض المختصين في الشؤون السياسية وهم يناقشون ما يحدث في إيران، وما يتعين على الولايات المتحدة أن تقوم به حياله. علاوة على ذلك أتيحت لي فرصة زيارة إيران لعدة أيام خلال شهر ديسمبر المنقضي، حيث خرجت بعدة انطباعات شخصية عما رأيته هناك.
الجميع تقريباً يتفقون على أن النظام الديني القائم في إيران لا يحظى بشعبية كبيرة لدى مواطنيه. وفي الواقع أنني عندما كنت في طهران، كنت أسمع الإيرانيين العاديين وهم ينحون باللائمة على الملالي، ويحملونهم المسؤولية عما وصلوا إليه من أوضاع. وقد قدر خبير في الشؤون الإيرانية نسبة المؤيدين للنظام القائم في إيران بأنها تتراوح ما بين 20-25 في المئة من إجمالي عدد السكان، وأن 60 في المئة من الشعب الإيراني هم من "الأغلبية الصامتة". والأفراد الذين يشكلون النسبة الأخيرة كانوا يوماً ما من المؤيدين المتحمسين للرئيس محمد خاتمي، قبل أن يخيب أملهم في سياساته، بدرجة دفعتهم إلى الانزواء والانسحاب من الحياة السياسية.
وفي الحقيقة أن الحركات الإصلاحية في إيران قد أصبحت تعاني من حالة من الفوضى والتشرذم أصبحت لا تشكل معها تهديداً للنظام، بل الحقيقة هي أنها تتيح له الفرصة للاستمرار في الحكم.
بيد أنه لا يزال هناك العديد من مصادر الدعم والمساندة القوية للنظام.
أول هذه المصادر هي عوائد النفط الضخمة التي توفر للنظام إمكانيات هائلة تساعده على المحافظة على الاقتصاد الإيراني قائماً، وتحول بينه وبين الانهيار. المصدر الثاني هم تجار البازار، وهم تاريخياً من القوى المؤثرة التي تقف إلى جانب النظام القائم ولا تسعى إلى تغييره، وخصوصاً عندما يعتني ذلك النظام بشؤونهم جيداً كما يفعل نظام الملالي الحالي. المصدر الثالث من مصادر الدعم والتأييد لنظام الملالي القائم هو قوات الحرس الثوري المسلحة التي لا تزال تشكل عموداً من الأعمدة الراسخة التي تقوم عليها بنية النظام.
وللحصول على بعض الشرعية فإن النظام الإيراني يقوم الآن على ما يبدو بالتفكير في تبني "النموذج الصيني" أي اتباع سياسات تقوم على النمو الاقتصادي السريع، ورفع القيود المفروضة على بعض أشكال السلوك الشخصي، مع الاحتفاظ في نفس الوقت بسيطرة قوية للنظام على الحكومة. ولكن العديد من المحللين للشأن الإيراني، يعربون عن شكوكهم في قدرة نظام طهران على اقتفاء أثر النموذج الصيني. وهم يرجعون السبب في ذلك إلى أن اقتصاد البازار الإيراني يعتمد على التبادل التجاري، أي على البيع والشراء وليس على تصنيع المنتجات وبيعها في السوق العالمي.
وهناك سؤال يمكن طرحه في هذا السياق هو: هل لدى النظام الإيراني اهتمام بالتوصل إلى إبرام "صفقة كبرى" مع الولايات المتحدة؟ سبب طرحي لهذا السؤال هو أن البعض في واشنطن يشعرون بأن هناك الكثير من الإيرانيين - ومنهم مسؤولون في النظام القائم ذاته- يتلهفون على الخروج من قيود العزلة التي حاولت واشنطن فرضها على بلادهم. علاوة على ذلك هناك عدد من مجالات الاهتمام المشترك بين الدولتين. وهناك أيضاً حقيقة أخرى وهي أن إيران قد استفادت بصورة أكبر مما يريد أي أحد الاعتراف به من تدخل بوش في إيران وأفغانستان. وربما يكون الوقت الحالي هو الوقت المناسب الذي يتعين فيه على إيران أن تسعى إلى فتح قنوات اتصال مع أميركا، لمعرفة ما إذا كانت هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية مؤقتة لحل المشكلات العالقة معها أم لا.
وهناك الكثير من الأشياء التي تستطيع إيران أن تقوم بها. فهي تستطيع على سبيل المثال أن تمد يد المساعدة من أجل تحقيق الاستقرار في العراق وأفغانستان، مقابل السماح لها بالاستمرار في برامجها النووية تحت الرقابة الدولية. وقد أخبرني أحد المهتمين بالشأن الإيراني أن المسؤولين في إيران، يشعرون أن لديهم قوة ضغط فيما يتعلق بالتعامل مع أميركا، بسبب سوء الأوضاع في العراق. وفي نفس الوقت فإن هؤلاء المسؤولين يعتقدون أن أغلبية الإيرانيين سيرحبون بحدوث تحسن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
وعندما نأتي إلى الأميركيين، فسنرى أنهم منقسمون بشأن كيفية التعامل مع إيران. فمن جانب المحافظين الجدد هناك شعور سائد بأن نظام طهران غير رشيد، وغير شعبي، وأنه سيسقط حتماً قبل انقضاء وقت طويل. ومن هذا المنظور فإنهم يرون أن على الولايات المتحدة الامتناع عن القيام بأي شيء قد يتيح الفرصة لهذا النظام كي يطيل أمد سيطرته على مقاليد السلطة في إيران... وأنه إذا ما دعت الضرورة إلى الاشتباك مع الشأن الإيراني، فإن ذلك يجب أن يتم مع المجتمع الإيراني أو حتى مع الاقتصاد وليس مع النظام نفسه. وهناك مخاوف تم التعبير عنها في واشنطن مؤداها أن التقارب مع إيران في الظروف الحالية، معناه الاستهتار بالتعهد الذي قطعه الرئيس بوش على نفسه بإحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط.
على الجانب الآخر هناك مدرسة أخرى في التفكير تتبنى رؤية بديلة فحواها أن الوقت الحالي هو الوقت المناسب لفتح قنوات اتصال مع طهران، وأن الموضوع الأهم الذي يتعين مناقشته هو القدرات النووية الإيرانية.
ونهج العمل الأفضل حسبما ترى هذه المدرسة من التفكير، هو قيام أميركا بالعمل بشكل وثيق مع أوروبا بشأن هذه المسألة (قدرات إيران النووية) على أن يقوم الأوروبيون بتقديم الجزرة لأنهم أقدر على ذلك، ويقوم الأميركيون بالتلويح بالعصا عند اللزوم. وإذا ما كانت المحادثات التي سيجريها الأوروبيون مع الإيرانيين بصدد تلك المسألة مثمرة، فإنه سيكون من الأمور المجدية حينئذ أن يتم توسيع نطاق تلك المحادثات، كي تشمل العراق، ولكي تمتد في النهاية لمناقشة موضوع دعم إيران للمجموعات الإسلامية الراديكالية في الشرق الأوسط.
لقد خرجت من هذه المناقشات- مثلما خرجت من زيارتي إلى إيران في شهر ديسمبر المنقضي- بشعور مؤداه أن الوضع الحالي في إيران محكوم عليه بالتغيير بشكل أو بآخر. فالجميع هناك على ما يبدو أصبحوا يشعرون بأن النظام قد وصل إلى نقطة أصبح مضطراً معها إلى القيام بشيء جديد.
على الجانب الأميركي، هناك شعور سائد بأن أسلوب الارتجال الذي كان يجري اتباعه في السنوات السابقة بشأن التعامل مع إيران، غير قابل للاستمرار إلى ما لا نهاية، وأنه يجب لذلك تجربة أسلوب جديد. والسؤال هو: هل هذا الأسلوب الجديد سيكون في شكل سياسة تقوم على الاشتباك الحريص مع النظام في إيران أو تقوم على التحرك من أجل تقويضه - كما يريد المحافظون الجدد؟ بالنسبة لي أقول إنني لا أعرف على وجه اليقين ما هو الأسلوب الذي ستقوم الإدارة الأميركية باتباعه، ولكن الشيء الذي أستطيع القول إنني متيقن منه هو أن فرصة المحافظين الجدد في القيام بمغامرات بشأن التعامل مع الشأن الإيراني قد فاتت.