ظل المحافظون الجدد والمؤيدون للرئيس جورج دبليو بوش يفاخرون بأنهم لا يمارسون حجراً على أولئك المعارضين لأيديولوجياتهم ومعتقداتهم السياسية، ولكنهم الآن فيما يبدو أخذوا يوجهون أنظارهم إلى هدف جديد يتمثل في تقييد وكبت الحريات الأكاديمية في أميركا. والآن فقد أصبحت إحدى أكبر المؤسسات التعليمية والثقافية الأميركية وهي جامعة كولومبيا في نيويورك هدفاً لهذا الهجوم، وباتت أكثر المهددين في هذا الحرم الجامعي ثلة من الأساتذة والمحاضرين من منطقة الشرق الأوسط من ذوي الأصول العربية أو الإيرانية أو أولئك الذين يتجرؤون على فتح المناقشات حول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بطريقة لا تتفق مع تفكير بوش أو أهواء المحافظين الجدد. ويذكر أن جامعة كولومبيا ظلت تمثل مركزاً للإشعاع الحضاري وللحرية الثقافية والتميز، ولكن هذه المؤسسة الموقرة قد وجدت نفسها بين عشية وضحاها منهمكة في خضم من عمليات التحقيق والمساءلات إثر شكاوى تقدم بها حفنة من الطلاب والأساتذة والإداريين والمتطرفين من اليهود المضللين الذين ادعوا أنهم تعرضوا لعمليات "إكراه وتهديد" من قبل هؤلاء الأساتذة بعد أن استغلوا وضعيتهم كأقلية صغيرة يمكن الازدراء بها.
وكان دان مايرون الأستاذ الجامعي المؤيد لإسرائيل قد زعم في موضوع نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 18 يناير أن "عشرات الطلبة اليهود" ظلوا لفترة خمس سنوات يخبرونه بأنهم يتعرضون إلى معاملة "قاسية" و"تتسم بالازدراء" من قبل زملائهم وأساتذتهم من ذوي الأصول العربية والإيرانية. وكتب يقول:"إن هؤلاء الطلاب لا يبدو عليهم الاضطراب بحيث يخترعون أو يلفقون مثل هذه الأشياء".
ولما كنت شخصياً أحد خريجي جامعة كولومبيا فإنني أستطيع أن أؤكد للأستاذ مايرون، وبوصفي أميركياً من أصول عربية أنني وجدت نفسي منذ اليوم الأول هدفاً لاعتداءات وانتهاكات مفرطة من قبل مجموعة من الأساتذة والطلاب والإداريين اليهود. وقد عزوت هذا الأمر ببساطة إلى أنه جزء من الاختلافات الثقافية والأكاديمية وبالطبع إلى حرية التعبير. ولكن اللعبة أصبحت أكثر خطورة الآن حيث إن الهدف لم يعد يقتصر فقط على طرد هؤلاء الأساتذة أو كبت أصواتهم بل يتعدى ذلك إلى منع وحظر توظيف أي من المعتدلين المخالفين لهذا الغلو والشطط والعمل على نشر هذه الحملة في كامل الساحة الأكاديمية الأميركية. وهي حملة يمكن أن نطلق عليها اسم "إسكات صوت العقل".
ولكن ما هي الاتهامات التي وجهت إلى هؤلاء الأساتذة الثلاثة الذين تم اصطيادهم؟ وفقاً لما ورد في صحيفة "نيويورك تايمز" فالحادثة الأولى تتعلق بمواجهة تمت بين ليندساي شراير مع أستاذها جورج صليبا الأميركي من أصل فلسطيني حيث ادعت أنه قال لها إن لديها عينين خضراوين وبذلك فإنها ليست سامية ولا يمكنها الادعاء بأن لها علاقة نسب تربطها مع إسرائيل. ولقد نفى الأستاذ صليبا حدوث هذا الأمر جملة وتفصيلا.
أما الحادثة الثانية فقد وقعت في محاضرة خارج الحرم الجامعي ادعى من خلالها تومي شوينفيلد الطالب الذي خدم في الجيش الإسرائيلي أنه كان بصدد توجيه أحد الأسئلة للأستاذ جوزيف مسعد الأردني الفلسطيني المولد، عندما ابتدره جوزيف بالسؤال "كم عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم"؟ ولكن الأستاذ مسعد صرح لصحيفة "نيويورك تايمز" قائلاً: "ليس من المعقول أبداً أن أتصرف بهذه الطريقة مع أحد الطلاب في القاعة بهذا الشكل الذي وصفه". أما الحادثة الثالثة فتتمحور حول الأستاذ حامد الدباشي الأكاديمي الأميركي الإيراني الأصل الذي قيل إنه علق النشاط الأكاديمي في أحد الفصول الدراسية من أجل تلبية "واجبه الأخلاقي" للمشاركة في تظاهرة فلسطينية. ولكن يبدو أنه استهدف بشكل رئيسي بسبب آرائه السياسية التي درج على نشرها في الصحف اليومية وفقاً لما أورده إن. آر كلينفيلد أحد مراسلي صحيفة "نيويورك تايمز". وكان كلينفيلد كتب يقول إن أستاذاً مساعداً في كلية الطب قد بعث برسالة إلكترونية إلى الأستاذ مسعد يقول فيها: "عد من حيث أتيت إلى وطنك العربي حيث تتأصل الكراهية لليهود. اخرج من أميركا لأنك تلحق بنا الخزي والعار، إنك أحد الكذابين العرب المتشنجين".
ولكن ماذا عن الكراهية للعرب؟ إن تفشي الكراهية أمر غير مقبول بصرف النظر عن الجهة التي تمارسها. لذا فإن من غير الجائز على مؤسسة مثل جامعة كولومبيا أن تعمل على تشجيع وإشاعة الكراهية ضد أساتذتها. ولكن جامعة كولومبيا التي كان من الممكن أن تبادر إلى طرد هذا الأستاذ بموجب قوانينها ولوائحها الأخلاقية لم تفعل ذلك. وبالطبع فإن الأستاذ مسعد قد ذكر أنه مثله مثل الأستاذين الآخرين قد تلقى العديد من الرسائل التي تحتشد بالكراهية والشتائم التي تصفه أحياناً بـ"راكب الجمال" وبـ"الإسلامي الفاشستي" في أحيان أخرى. وأشار أيضاً إلى أن بعض الطلاب غير المسجلين في منهاجه الدراسي قد درجوا على حضور محاضراته من أجل التهكم والنيل منه. وفي الحقيقة فإن الأستاذ مسعد قد تم استهدافه لأسباب أخرى، فلقد اعتاد الطلاب اليهود الإشارة إلى محاضراته وأطلقوا عليها اسم "إسرائيل العنصرية". حسناً، إن إسرائيل بالفعل دولة عنصرية وإن نصف العالم يؤمن بهذه الفكرة لأن إسرائيل تصنف نفسها بأنها "دولة حصرية لليهود" يعتبر فيها أي شخص غير يهودي مواطناً من الدرجة الثانية. وهو أمر على الأقل يجب مناقشته بحرية داخل الحرم الجامعي.
يقول الأستاذ الدباشي: "بالنسبة لي فإننا نعيش في العصور المظلمة. إنها ليست الولايات المتحدة التي جئت إليها في عام 1976، إنني أكاد لا أعرفها". وصرح قائلاً لصحيفة "نيويورك تايمز":"إنني أعاني من صدمة أخلاقية". وفي الحقيقة فإن هذا هو العصر الجديد للمحافظين الجدد الذين درجوا ليس فقط على إسكات الأصوات المخالفة لآرائهم بل العمل على التخلص من جميع الأساتذة والمفكرين الذين يحملون آراءً مختلفة. لقد نجحت تلك الحملة الشرسة في تحقيق بعض نتائجها المرتجاة، فقد جرد الأستاذ مسعد من بعض مسؤولياته الأكاديمية حيث أجبر على التخلي عن تدريس أكثر مواده المثيرة للجدل "السياسات والمجتمعات الفلسطينية والإسرائيلية" في الفصل الدراسي القادم بسبب المخاطر العاطفية ولأنه تخوف من أن يفقد منصبه. ولربما يفوز بهذه المهمة أحد المتطرفين والمتعصبين ضد فلسطين ولكن الخاسر الأكبر بدون شك هي المؤسسات الفكرية الأميركية.
ويقول أندرو جيه ناثان أستاذ العلوم السياسية الذي أعرب عن تشككه بشأن مصداقية الاتهامات التي وجهها الطلاب للأساتذة:"لقد عملت في مجال التدريس لمدة 33 عاماً وكنت دائماً أعتقد أننا ندرك التقاليد الصحيحة التي يجب مراعاتها داخل الكلية. ولكن الآن أصبح من الواضح لكل فرد أن الفصل الدراسي يتمتع بالسيطرة الكاملة. إنني أدرس مادة تدعى "مقدمة لحقوق الإنسان" لقد أنفقنا أسبوعاً بأكمله ونحن نستعرض أعمال التعذيب التي تمارسها إدارة بوش. والآن فقد بدأ يساورني التعجب مما إذا كان هناك شخص ضمن طلبتي البالغ عددهم 143 طالباً سيحزن لأجلي لأنني لم أهيئهم بشكل علمي جيد لكي يتجاوزوا هذه المعاناة العاطفية عندما يسمعون ويشاهدون هذه التجاوزات المرعبة".