من كتب عليه الشقاء والبلاء فاعتقل فدخل معسكر آوسشفيتزAuschwitz) ) في بولــندا في ظــروف الحــرب العالمية الثانيــة، كانــت تطالعه عبارة بريئــة تحــتل عرض المدخل باللغة الألمانية: «العمل يهب الصحة» Arbeit macht gesund))، فإذا أصبح داخل المعسكر قابل في الممرات فرقا موسيقية تعزف سيمفونيات بيتهوفن الراقية، فيخيل إليه أنه دخل الجنة، إلا أنه سرعان ما كان يلاحظ من بعيد مداخن كئيبة عالية تمتد فوق الأفق لا تكف عن نفث دخان أسود برائحة غريبة يعبق المكان بها على مدار الساعة، ويعتادها مع الوقت. لم يعرف نزلاء المعسكر خبر تلك النار، التي لا تخبو أوارها، إلا حينما واجهوها، فودعوا بدون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. لم يكن يخطر في بال أحدهم لحظة واحدة أنه سيحلق برماده مع الغمام، أو انهم بعد نجاتهم من المحرقة الكبرى ستنقل الأخبار إليهم أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من الجحيم.
ولا يعرف السجن إلا من ذاقه، ولا النار إلا من كابدها، خاصة في الزنازين الانفرادية. أنا دخلت هذا الجحيم أربع مرات، وخرجت منه كما خرج إبراهيم من النار، وكنت أكرر: «رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا». وما زلت أذكر النازيين العرب الذين وظفوا الآية القرآنية في مدخل السجن العسكري في عاصمة عربية، فيطالع السجين بخط يحتل الواجهة: «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين».
بقي معسكر آوسشفيتز يعمل بكامل الطاقة حتى انهيار الرايخ الثالث، وشحن إليه زربا 105 آلاف يهودي في قطارات مغلقة من أصل 125 ألف يهودي هولندي، ولم يكونوا سوى دفعة على الحساب، وباستثناء الجستابو لا يعلم أحد عدد من مات فيه، وبأي طريقة ماتوا. ولم يمت فيه اليهود فقط، بل أجناس لا حصر لها، ومن الجنسين، من الغجر والشيوعيين والمفكرين البولنديين والقساوسة المعارضين، وكل من ناهض النازية وضدها ناضل; فالأبالسة هناك تفننوا في القتل بكل سبيل، ومن هذه الأساليب استفادت انظمة ثورية عربية لتدمير الإنسان العربي. وكان من نزلائه عالم النفس النمساوي (فيكتور فرانكل) الذي خلَّده بكتابه (الإنسان يبحث عن المعنى Man searches the Meaning) ) والذي خسر زوجته فيه. وهو كتاب يخرج المرء من قراءته بغير ما دخله، ويوم ماتت زوجته جاءت روحها على شكل طير حط أمامه يتأمله ثم طار.
وفي 20 ديسمبر 1963 افتتحت أولى المحاكمات في فرانكفورت ضد 21 متهماً مارسوا الإبادة الجماعية في ذلك المعسكر الرهيب، واستمرت المحاكمات قريبا من سنتين في إدلاء الشهود واستعراض الملفات وقصص الضحايا حتى أقفل في 19 اغسطس 1965 .
وبعد ستين سنة، في يناير 2005، يقف المستشار الألماني، جيرهارد شرودر، وهو يردد كلمات التوبة والإنابة عما فعل أجداده من قبل. ونتمنى أن يفعل ذلك حكام عرب، فيقفوا في الأماكن التي شهدت المظالم فيعتذروا لشعوبهم عما فعلوا.
واليوم من يزور المكان يمر بالمهاجع الخاوية على عروشها فيرى صورا لأشباح لفها الظلام وزفرات وحسرات ودموعا أصبحت من الماضي، بجانب كومة هائلة من النظارات لأناس لم يعودوا ينتسبون إلى عالمنا. لا تعلمهم الله يعلمهم.
ولكن ممن نجوا من العدالة رجل مهم هو الطبيب مينجله Mengle)) وهو طبيب هتلر الخاص في محاكمات فرانكفورت واختفى. وكان المجرم يمارس التجارب الطبية على اللحم الحي مثل: أفضل طرق معالجة الصقيع بوضع المصاب بين امرأتين عاريتين، وفتح بطن الحوامل بدون تخدير، وتجربة العقاقير على المعتقلين، وباختصار كل الطب الإجرامي. كما رأينا ذلك في بعض بلاد العروبة على يد أطباء فقدوا شرف المهنة.
وأعترف أنني عندما ذهبت عام 1975 الى المانيا الغربية للاختصاص الطبي، قلت لعلها أفضل من أمريكا لعدم وجود لوبي يهودي فيها، فعرفت أنها نظفت بالتطهير العرقي فلم يبق إلا آلاف فيها، وكان بإمكاني الذهاب إلى أمريكا بعد أن نجحت في الامتحان الأمريكي (ECFMG) ولكن بعد سنوات الاختصاص أصبحت متعاطفاً مع محنة اليهود في آوسشفيتز، فلم يكن اليهود لوحدهم في المحرقة; بل شعوب لا نهاية لها في جدول الإبادة كي تفرغ الأرض للشعب الآري. ومن هذه الشعوب التي لا تستحق الحياة الشعب العربي. وعندما عاينت وعرفت الهول الأعظم كنت أسأل الألمان من حولي هل حقاً حصل ما حصل؟ وكان الجواب: وأكثر منه.
آوسشفيتز وما أدراك ما آوسشفيتز؟
لا يقرأ الإنسان نهاية اليهود في (الماسادا) عام 73م إلا وتدمع عينه، فقد احتشد مئات اليهود في قلعة محاصرة من الدمويين الرومان فلم يجدوا خلاصا من الموت إلا بالفرار إليه. وهكذا نحر الجميع الجميع. وهو ما يذكر بصبرا وشاتيلا أو تل الزعتر للفلسطينيين بصورة مختلفة حينما أفتى من أفتى بجواز أكل لحم الموتى، ولم يكن الرومان خلف الكارثة، بل الأشقاء الأشقياء العرب مع الصهاينة.
جاء في كتاب (كرونولوجيا الجنس البشري ـ 186) «تمكن القائد الروماني عام 73م فلافيوس سيلفا من اقتحام قلعة الماسادا اليهودية بعد حصار طويل، وكانت القدس عام 70 م قبلها قد سقطت. والقلعة المذكورة الصخرية كانت عند البحر الميت وقد التجأ إليها 960 من اليهود المتدينين الزيلوت وكذلك فرقة من الآسينيين بأطفالهم ونسائهم، فلما يئسوا نحر بعضهم بعضا ودخل الرومان على قلعة تضم جثثا تسبح في الدماء، وبعد سقوط القلعة انتهت كل مقاومة لليهود ومزقوا كل ممزق وأصبحوا أحاديث في الدياسبورا».
إن تاريخ اليهود حافل بالمذابح والمعاناة ومنه خلق الشعب اليهودي خلقا آخر ولكن كما يقول الفيلسوف (سبينوزا) كان يمكن أن يمشي في اتجاه آخر فجعلوا بينهم وبين شعوب الأرض حجابا مستورا.
وما جرى في قلعة الماسادا حققه النازيون بحجم يفوقه آلاف المرات، ولعله لم تولد فكرة السلاح النووي الإسرائيلي في (المدراشا) مجمع الموساد (الاستخبارات الإسرائيلية) جنوب تل أبيب عام 1964م بل ولدت في (الفانين زي WANNENSEE) )في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م; حينما خطط (هايدريش) مساعد (هملر) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليونا من اليهود في أوربا، ولم يولد الجنين النووي الإسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا، ومن الغريب ـ وهذه آلية معروفة في علم النفس ـ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته، فهذه مأساة إسرائيل (إسبرطة) الجديدة، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني (تيطس) ومحارق النازية في (آوسشفيتز AUSCHWITZ) ) و (تيريبلنكا). فالنازيون خططوا لـ (الحل النهائي) الجرماني، ومؤسسو الصهيونية خططوا لـ (الحل النهائي) الإسرائيلي خيار شمشون. ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم، فلا يمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه، معلقاً في الفضاء، مفصولاً عما حوله، ما لم يدخل ضمن (القانون الجدلي) الخاص به، فكل (حدث) هو (نتيجة) لما سبقه وهو بنفس الوقت (سبب) لما سيأتي بعده. ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات، ولا يشذ عن هذا القانون خيار (شمشون الجبار); فالأدمغة اليهودية من أمثال (ايرنست بيرغمان) و(بن غوريون) و(عاموس ديزحاليط) ولدوا وعاشوا في (الهولوكوست)، لذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى، وحذرهم غير متناه، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود، بما فيه الغرب، وينقل (جيفري لانج) في كتابه (الصراع من أجل الإيمان) هذا الخوف على صورة زوجته التي احتفظت باسمه طويلا وهي اليهودية أو قوله «إنهم يتوقعون انقلاب الزمان عليهم دوماً»، ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء.
ومشروع (مانهاتن) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من (شبح) هتلر الذي يُصَنِّع السلاح النووي، وتبين بعد ذلك أن الأمر كان وهماً، ولكننا نعلم أن الأساطير تحرك الشعوب، والأمم تتغذى بخرافة الحزب القائد أربعين سنة حتى بعد موت القائد.
يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو (روبرت اوبنهايمر) ولا ننسى أن نذكر أن آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي (سيلارد) الهنغاري الهارب، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله: الرياضيات خالدة والسياسة زائلة!!