لو نظر العراقيون الذين سيذهبون في هذا اليوم الى صناديق الإقتراع، وأيضاً الذين سيقاطعون ولن يذهبوا، عبر الزمن الى الخلف لوجدوا ان أسلافهم وأجدادهم قد عاشوا قبل ثمانين عاماً يوماً تاريخياً كهذا اليوم وأنهم، أي الاجداد والأسلاف، كان قد ذهب بعضهم الى انتخابات كهذه الانتخابات في نهايات يناير «كانون الثاني» العام 1924 في حين أن آخرين قاطعوا وللأسباب نفسها التي يرفض من أجلها البعض إنتخابات اليوم.
لقد كانت إنتخابات يناير «كانون الثاني» 1924 أول إنتخابات في تاريخ العراق ولقد بقيت تتكرر حتى العام 1953 ثم بعد ذلك جاءت الطامة الكبرى عندما دخلت بلاد (شرائع حمورابي ) الشهيرة دوامة الإنقلابات العسكرية والمذابح والتصفيات والأنظمة الديكتاتورية والشمولية.
عندما أُجريت أول إنتخابات في العراق كان عمر الدولة العراقية نحو ثلاثة أعوام فقط وكان فيصل الأول، الذي أصبح عاهلاً لبلاد الرافدين، يعيش أجواء الثورة العربية الكبرى ومناخها ويحلم ببناء الدولة الديموقراطية القوية والمقتدرة التي يجب ان تكون اللبنة الأساسية لبناء دولة الأمة العربية الواحدة التي بقي العرب يحلمون بها لحقب وعهود متلاحقة طويلة.
لقد بدأت هناك في العراق تجربة واعدة وكانت بدأت هنا في الأردن وفي الوقت ذاته وفي الفترة إياها التجربة الواعدة نفسها فالملك عبدالله الأول، الذي أنشأ دولة على حافة سيف الصحراء وفي ظروف أصعب بمليون مرة من الظروف العراقية، أراد أيضاً ان تكون هذه الدولة نواة للدولة العربية التي حلم بها الشريف حسين بن علي واستشهد من أجلها وكان يريد ان تكون دولة الانسان العربي الحر والسعيد ودولة الإنتخابات والديموقراطية.
لم يستطع الذين خلفوا فيصل الأول تحقيق حلمه وحلم والده فلقد إغتالتهم المؤامرات والانقلابات العسكرية كما إغتالت أحلامهم وأحلام العراقيين كلهم وبقي العراق منذ الرابع عشر من يوليو ( تموز ) 1958 ما أن يخرج من حلقة عنف ودموية حتى يدخل حلقة جديدة الى ان وصلت الأمور الى الإحتلال الأميركي الذي تجري في ظله إنتخابات اليوم كما جرت إنتخابات العام 1924، التي إغتيلت مع إغتيال فيصل الثاني، في ظل الإحتلال البريطاني.
ما أشبه اليوم بالأمس فالذين قاطعوا تلك الإنتخابات، أي إنتخابات 1924، بفتاوى من كبار المرجعيات الشيعية تحججوا بالحجج ذاتها التي تتحجج بها هيئة علماء المسلمين ( السنية ) عندما دعت لمقاطعة الإنتخابات الحالية، فالموقفان وجهان لعملة واحدة وعدم الثقة لا بالشعب العراقي ولا بالنفس هي سبب المقاطعة اليوم كما كانت سبب المقاطعة قبل ثمانين عاماً.
لا مخرج للعراق من حلقة العنف والفوضى التي دخلها مع أول إنقلاب عسكري، في الرابع عشر من يوليو ( تموز ) العام 1958، إلا بالإنتخابات وحتى وإن جرت هذه الإنتخابات كما كانت جرت إنتخابات 1924 تحت ظل الإحتلال فاليابانيون كانوا قد إنتخبوا في ظل الاحتلال وكذلك الألمان والكوريون الجنوبيون وها أن الفلسطينيين ينتخبون اليوم في ظل أبغض وأقسى إحتلال عرفه التاريخ.. والمفترض ان العراقيين يتذكرون، وهم يتوجهون في هذا اليوم الى صناديق الإقتراع، كم أن الإنقلابات العسكرية وأنظمة الحزب الواحد والقائد الملهم الأوحد أضاعت من عمر بلدهم الذي لو بقي يسير وفقاً لرؤى إنتخابات 1924 لكان الآن بمستوى أهم الدول الديموقراطية المتقدمة في العالم.