لا يعادل الخوف من الحرية، كتعبير عن الفرار من تحمل أعبائها إلا الخوف من الديمقراطية، ولو كان العالم عندما كتب “اريك فروم” عن الخوف من الحرية على ما هو عليه الآن لاستكمل الدائرة المرسومة بالطبشورة السوداء من خلال هذا القوس المحذوف، فقد بات من المؤكد علمياً وميدانياً ومن خلال الفحص المجهري للعينات البشرية، ان الاستعباد يحرف الطبيعة الانسانية، ويستبدلها بواحدة أخرى لا علاقة لها بالفطرة السليمة والوجدان النظيف، فالعبد ينوء بحريته، إذا ما نالها، ولم يكن غريباً ان يعود عبيد محررون الى بيوت السادة او يحومون حولها لأنهم فقدوا بمرور الزمن وتراكم الكسل القدرة على المبادرة، او حتى على رد الفعل.
وهناك تجربة طريفة غالباً ما يتطرق إليها من يعالجون مسألة الخوف من الحرية، أجراها داروين على النمل، فهذه الامبراطورية الصامتة بها من النظام ما لم يحققه البشر في امبراطورياتهم، لكنها محرومة من النقد والمراجعة، لهذا فهي تتكرر، ويصاب سادة النمل بالبطالة حتى الموت إذا فقدوا تلك الذراع الصناعية التي تمارس دورها كائنات مسخرة للخدمة ولا شيء آخر، أي انها حسب المصطلح الوجودي فاقدة للذات، ومجرد شيء تابع لا حول له ولا قوة.
وإذا كان الخوف من الحرية هو سمة كائن لم يتدرب عليها، ولم ينعم بها، فتحولت الى عبء على كاهله، فإن الخوف من الديمقراطية هو أيضاً هروب من المواجهة ومن حق المشاركة ما دام هناك من يفكر نيابة عن كم كبير مهمل من البشر، لا يستشعرون الذات ولا يسعون الى تحقيقها.
لا بأس إذن ان تكون الحرية مجرد مفردة ذات بريق يصيب من يحدق إليها بالعمى، ولا بأس ان تكون الديمقراطيات في عالم لم يتهيأ لها ولم يفرزها من صميم كيانه مجرد عينات للعرض فقط.
ومن المعروف ان ما يعرض في الواجهات، ويكتب عليه غير مخصص للبيع مكتملاً، وحائزاً على شروط يندر ان تتوافر في سلع معروضة للتداول، وكأن المقصود بالعرض هو استعراض مهارة الصانع، وإسالة لعاب “الزبون”، وذلك بمثابة تهيئة وإعداد نفسي للإقبال فيما بعد على سلع جاهزة للبيع.
ديمقراطيات العرض، اشبه بمصغرات أو نماذج غير مشوبة بالغبار، او العرق او حتى الدم، لأنها صناعية، ومعدة كبدائل معقمة لكل ما هو عضوي، ووليد الحاجة، وغالباً ما تذكرنا هذه الديمقراطيات المحررة من ديناميات الانتاج واختلاف أنماطه، بمقاعد هشة توضع في مداخل البيوت، لا تصلح للجلوس، بل لأسباب جمالية لأنها مجرد “اكسسوارات” على هامش الأثاث.
ويبدو ان هناك خللاً جذرياً في تعريف الديمقراطية، لأن اختزالها على هذا النحو المخل، والمنقطع عن حيثيات اقتصادية وثقافية وايديولوجية حذف منها أهم أبعادها، وحولها الى مجرد قرار يصدر إذا ما دعت الحاجة، إما خوفاً من ضغط معين، او كمحاولة لاجهاض ما يتنامى تحت السطح ويهدد بانفجار حقيقي.
وقد يكون أكثر الناس الحاحاً على الديمقراطية كحل للوضع البشري برمته، بحاجة الى اختبار لأن التاريخ قدم لنا أمثلة تستحق الاستذكار والمراجعة، فالديمقراطيون جداً على صعيد التناول النظري المحض، انتهوا في معظم الأحيان الى طغاة يحتكرون الحقائق، ويقترحون ثنائية الصواب والخطأ بشكل مطلق معياراً وحيداً كي يظفروا بالصواب، وتكون الأخطاء من نصيب من يخالفهم الرأي.
وهناك كتابات لا آخر لها تناولت هذه الدراما السياسية ذات القشرة الثقافية، منها نصوص مسرحية وروايات وقصص اضافة الى رسوم كاريكاتورية توارثتها الأجيال كوسيلة لما يسمى الاتقاء او المقاومة بالسخرية، لكن هذا ليس مبرراً بأية حال كي ينفض الانسان يده من غبار الديمقراطية، او يغسلها من دمها، لأن نوازع السيطرة والامتلاك بلا حدود هي من طبيعة وغريزة حيوانية ليست خارج المدار البشري، لهذا كانت المعرفة والفنون والفلسفات على امتداد الزمن محاولات تهذيب لهذه النوازع الوحشية.
سيكون من السهل على أي مجتمع حتى لو كان باترياركياً في أدق تفاصيل نسيجه ان يبتكر عينات ديمقراطية صالحة للعرض فقط، ولن يعدم الحيلة في الدفاع عن نظامه وتبرئته من الطغيان والعسف، لأن هناك اختصاصيين في التزوير، ومحاكاة الأصول بمهارة بحيث ينطلي الأمر على الناس جميعاً ولو الى حين.
لكن المسألة ليست في النهاية خداعاً للذات، والكذب عليها حتى التصديق كما قال غوبلز في واحدة من أشد نظريات الإعلام بؤساً، لأن الديمقراطية، التي لا تنفصل بأي حال عن منجز الحريات، انتاج آخر، وثروة مادية وروحية غير منظورة، والمحرومون منها لا يشعرون بالانتماء الى أي سياق، لهذا لا مانع لديهم في ان يتظاهروا بالعمل ولا يعملون وان يرددوا شعارات الانتماء مفرغة من المضامين وقد يندفعون بقوة الأوامر والضغوط الى حروب يعودون منها خاسرين، ان لم يجد معظمهم في الأسر حلاً، ونوعاً من البطالة التي تعفيهم من كل شيء.
ما نخشاه هو ان يختلط الأمر على شعوب حلمت بالديمقراطية حتى أوشكت على ادمان غيابها، فتصبح العينات المعروضة للتصوير في الواجهات هي البديل لما هو ضروري كالخبز والدواء والماء والهواء!