ليست هناك عبارة مانعة، جامعة، لاجمة لطموح المواطن العربي مثل: أن المسؤول يرى شيئاً لا تراه أنت، أيها المواطن الفقير، وليست هناك جملة عربية غير مفيدة، كتلك التي تصدم المواطن، وتحد من تطلعه لإبراز الأحسن والأجود في عمله، وتفكيره، وتقديم ابداعه دون تكسير جوانحه، ان عبارة المسؤول يرى أبعد مما ترى أيها المواطن العربي، وأن أكبرمنك بيوم أفهم منك بسنة، قد عطلت لدينا طاقات، وقتلت مواهب، ومنعت كثيراً من العبقريات العربية من الانطلاق، والتحرر نحو انتاجية حضارية، وابتكارات علمية وأدبية وفنية، هذا الحجر غير المقصود، والذي يبنى على مصالح شخصية ضيقة، وتفكير انتاجي محدود، يقاوم روح العصر، ومنطق حال اليوم الجديد، الأمر الذي جعل الكثير من العبقريات تهرب بجلدها الى أمكنة تغرب، ومنافي اغتراب، أستطاعت أن توفر لها الامكانيات المادية، وأجواء الحرية المطلوبة، فهجرت الطاقات العربية بلاد العرب أوطاني، متجهة الى الأمريكاني والبريطاني، لا طمعاً في المادة، ولا المنصب الكاذب، بل الى مناخ يستطيع فيه ان يتنفس وبعمق، وأن ينمي قدراته، ويحترم تفكيره، وينطلق بعبقريته·
يذهب المواطن العربي متوشحاً دفاتر فيها خطط للنفع العام، وفيها توفير للمال العام، وفيها منتج سيسعد الخاص والعام، فيلتقي مسؤولاً، عينه ضيقة، ونفسه قصير، وتفكيره محدود، فلا يقول للماثل أمامه كلمة مرحباً، ولا يكلف نفسه قراءة ما أنهك المواطن فيه ليله ونهاره، ولا يكتفي بهذا، بل يتبعه بقوله: أحسن لك أن تهتم بعملك، ودع المسؤولين، لا تشغلهم بهمومك الصغيرة، لأن لديهم أعمالاً تنوء بحملها الجبال الرواسي، وهم يرون ما لا ترى، ويفكرون في أشياء، لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولا خطرت على بال بشر، فيرجع المواطن العربي مهزوماً في الداخل، محاولاً اقناع نفسه أن هذا المسؤول يتجاوزه بمراحل من التفكير السليم، والعمل المضني، والتخطيط الاستراتيجي للصالح العام، فتموت في الحال موهبة غضة، ويدفن على الفور مشروع وطني وقومي لم يقرأه أحد، ولم يطلع عليه خبير مختص، وأكتفى بعبارة المسؤول البلاستيكية، الذي يرى ما لا يراه المواطن·
لقد هالتني الأرقام التي تسجل هجرة العقول العربية بلادها، الى بلاد الغرب المختلفة، والسبب مسؤول خاف على كرسي صغير، وأراد منفعة شخصية آنية، أو جهل بوسائل التفكير، وفن ادراة الوقت والانسان، أو هي محاربة النظافة والاخلاص والولاء الوطني، لذلك سعت الأمم المتقدمة أن تضع لهذه المواهب، ادارات خاصة، وميزانيات خاصة، واستثناءات خاصة جداً، لا لشيء، الا لمعرفتهم القوية بأهمية أن تستثمر الأمم قدراتها في هذا الانسان وطاقاته غير المحدودة، لذلك هبت كثير من الدول من جهلها، ومن تعثر اقتصادها، ومن هزيمتها، وأصبحت اليوم في مصاف من يزاحمون التاريخ، ويتحكمون في خرائط الجغرافيا، وحين ننظر الى مبدعيهم نجد أن بين صفوفهم أناساً نعرفهم، كانوا هنا، ينشدون بلاد العرب أوطاني، حتى بُح صوت المنشد، والسبب أن مغني الحي لا يطرب، وبعد مضي السنوات، وحين يكبر الأولاد والأحفاد، وحين يستبد بهم الحنين ويتذكرون ذلك النشيد، يرجعون والوطن حاديهم، يلتقون صدفة بذلك المسؤول الذي كان يرى كزرقاء اليمامة، وهو في ساعة ضجره وتقاعده، وعناده القديم، وركوبه الموجة الجديدة، وأول ما يكون اللقاء، يذكّره المسؤول بقوله: لو لم تسمع كلامي، وتهاجر، لأنك موهوب وعبقري تسبق زمنك وبلدك، لما وصلت الى ما وصلت إليه الآن، ألم أقل لك قديماً إن المسؤول يرى ما لا يراه المواطن، ولو لم تسمع نصيحتي، لما وفرت كل سنوات النجاح هذه، ونصيحتي لك اليوم، ارجع حيث كنت، لأنك ستفقد كرامتك قبل موهبتك هنا، وأرجوك هذه المرة أن تنصت لمن هو أكبر منك بيـــــوم، لأنه أفهم منـــك بسنه، يامخـــترع، يا موهوب، ياعبقري، يا عربي··