ليس بالوسع مقارنة الانتخابات النيابية في لبنان بمثيلتها في العراق. ففي لبنان ليس هناك احتلالٌ ولا كفاحٌ مسلَّحٌ ضدّه. كما أنه ليس هناك تفكيرٌ من أحدٍ معتبرٍ بمقاطعة الانتخابات، ولا تهديد بالانفصال أو إمكان الانفصال إن حدث ما حدث في الانتخابات وبعدها. ومـع ذلك فهناك أوجُهُ شَبَهٍ بين الانتخابات في البلدين: العراق ولبنان. وجه الشبه الأول أنَّ المقصودَ من معارضتها إنما هو معارضةُ التدخل الخارجي فيها؛ في العراق: الولايات المتحدة الأميركية، وفي لبنان: الوجود السوري. ووجهُ الشبه الثاني أنّ الأطراف المتحمسة للانتخابات بالعراق تريد الوصول للسلطة بعد طول حرمان؛ والأطراف المتحمسة في لبنان تريد إحداث تغييرٍ يُخرجُ السوريين من لبنان، ويجعلها مؤثّرةً أكثر في القرار السياسي والأمني. ومبرِّرُ العودة لمناقشة موضوع الانتخابات في هذا الحيّز ليس حلول موعد الانتخابات العراقية فقط؛ بل ظهور معالم القانون الجديد للانتخابات الذي ستقترحه الحكومةُ على مجلس النواب بعد إقراره في مجلس الوزراء. والطريف أنَّ مشروع القانون هذا يلبّي أكثر طموحات المعارضين، وأنّ الدافعَ لذلك ليس حبّ سوريا والحكومة الاقتراب من أولئك المعارضين؛ بل اتفاق رئيس الجمهورية مع البطريرك الماروني عليه قبل اقتراحه على مجلس الوزراء من جانب وزير الداخلية(!). والطريف أيضاً أنّ الذين بدأوا بمعارضة القانون أكثرهم من أعضاء الحكومة، وأنّ المعترضين من خارج الحكومة كانوا في الأصل مع مثل هذا المشروع!
وبدلاً من الاستمرار في ذكر طرائف القانون والاصطفافات السياسية الجديدة، نعرضُ لبعض معالمه الكبرى. أكبر معالم القانون الانتخابي أنه يشترعُ إتمام الانتخابات على أساس الدوائر الصُغرى (القضاء)، بحيث تنقسمُ المحافظات اللبنانية الثماني إلى أربعةٍ وعشرين قضاءً، تتراوح نسبةُ المنتخبين من النواب في كلٍ منها بين 4 و6 في القضاء الواحد، ونسبةُ المقترعين للنائب الواحد بين 15 و30 ألفا(!). وحجةُ المعارضة التي كانت أكبر دُعاة الانتخاب على أساس القضاء أنه يؤمّنُ صحةَ التمثيل لأنه في الدوائر الصغرى فإنّ الناخب يعرفُ المرشَّح، وأنه يمنعُ أو يصعّب عملية التدخل الخارجي، وأنه يسمحُ بتمثيلٍ أكثر تأثيراً للأقليات والميول المحلية، وأنه هو القانون الذي أُقرَّ بعد اضطرابات عام 1958 فحقّق تمثيلاً جيداً واستقراراً. هذا ما كان المعارضون يقولونه قبل اقتراح القانون. لكنْ بعد اقتراحه برزت اعتراضاتٌ من جانب المعارضين والموالين والمراقبين المُحايدين. أعلى الاعتراضات صوتاً جاءت من جانب الرئيس الحريري، وكتلته في بيروت. فقد جرى تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائر مثل المرة الماضية، ومثل قانون عام 1960. لكنْ جرى التلاعُب بحدود الدوائر للإضرار بالأكثرية السنية في العاصمة. إذ جرى جمعُ الأكثرية السنية في الدائرة الثالثة مع 4 من 6 من نوابهم في كل بيروت، وجرى استحداث دائرة خاصة بالمسيحيين، ودائرة يختلط فيها السنة بالشيعة بالأرمن، بحيث لا يستطيع نوابُ السنة (2 من 6) النجاح إلاّ الذين يريدهم الشيعة والأرمن. والأدهى من ذلك أنّ المرشَّحين في الدائرة المختلطة هذه (الدائرة الثانية) هم تسعةُ نواب من مختلف الطوائف؛ أي نصف نواب العاصمة؛ في حين لا يزيد عدد الناخبين فيها عن ربع المقترعين في كل العاصمة!
بدت معارضةُ الحريري منصبّةً على محاولات إضعافه في بيروت، وهذا أمرٌ فعليٌّ وليس تقديرياً. فقد صرَّح به الصاحب العلني للمشروع وزير الداخلية سليمان فرنجية، الذي قال في التلفزيون للمسيحيين إنّ المقصود بالمشروع في بيروت وغيرها إغناؤهم عن الحريري بحيث لا يحتاجون للتحالُف معه؛ لكنهم إن فعلوا رغم ذلك فسيعمدُ لتغيير المشروع بحيث يُضرُّ بهم! لكنّ الأهمَّ في الأمر رغم جدية شكوى الحريري: الفلسفة الكامنة وراء المشروع الانتخابي، بحسب ما قاله وزير الداخلية أيضاً. فقد قال إنه يريد أن ينتخب المسيحيون نوابهم، فلا يكونوا عالةً على الآخرين في الانتخابات!وهكذا فالمشروع، أو القضاء، يخلُقُ معازلَ طائفية مارونية بالدرجة الأولى؛ لكنْ أيضاً درزية وشيعية. وليس صحيحاً أنّ قانون عام 1960 حقّق تمثيلاً صحيحاً واستقراراً؛ بل أدَّى بحكم الانعزال الطائفي إلى ظهور الحلف الثُلاثي الذي كان نذيراً بالحرب الأهلية، لأنه كسر التوازن والتلاؤم السياسي والحاجة إلى التواصل بين المسلمين والمسيحيين في المجال السياسي. وكان اتفاقُ الطائف عام 1989 قد تجاوزَ مسألةَ القضاء باتجاه المحافظة، التي تؤمّنُ اختلاطاً وامتزاجاً وتوازُناً بين سائر الطوائف. لكنه نصَّ على ضرورة تعديل المحافظات إدارياً، أي أنه دعم الاتجاه للدوائر الوسطى بين القضاء والمحافظة. وبذلك فمشروع القانون الجديد يتجاهلُ الطائف، والدستور اللبناني الحالي. وكانت قوانين الانتخابات السابقة بعد عام 1990 قد اشتغلت على أساس المحافظات؛ لكنْ خالطتها عشوائياتٌ مُراعاةً لأنصار سوريا في سائر المناطق، ومن أبرز هؤلاء الأنصار وليد جنبلاط، الذي صار الآن أبرز معارضيها!
المسيحيون إذن هم أهمّ المستفيدين من مشروع القانون، وأكثر هؤلاء من المعارضين للوجود السوري. ويستفيد وليد جنبلاط أيضاً؛ لكنّ استفادته مرهونة باستمرار تحالُف المسيحيين معه، ودعم السنة له. لأنّ الطائفة الدرزية صغيرة؛ وتنتشر في منطقةٍ واسعة نسبياً أو منطقتين، والمسيحيون والسنة فيهما أكثر من الدروز. وإذا كان الحريري أبرز المعترضين؛ فإنَّ أهمَّ أولئك المعترضين على القانون الحزبان الشيعيان الرئيسيان: أمل وحزب الله، وهؤلاء لن يتضرروا لأنهم أقاموا تحالُفاً في ما بينهم، بحيث تنقفلُ مناطقُهُم في وجه المعارضين والمتمايزين من العلمانيين واليساريين وأنصار العائلات السياسية السابقة. لكنّ الخلاف بين المعارضة والأحزاب الشيعية في الشهور الماضية، ما كان على قانون الانتخاب؛ بل على الوجود السوري الأمني والسياسي والعسكري. فالأحزاب الشيعية ما تزال مع الوجود السوري دونما معارضةٍ أو تمايُز. وموقف الحريري غامض؛ بحيث يبدو متحالفاً مع المعارضة انتخابياً وليس سياسياً. فهو لم ينتقد الوجود السوريَّ علناً، رغم عزل السوريين له، ومحاولاتهم لإضعافه. وموقفُهُ الآنَ صعب؛ إذ لا شكَّ أنّ أكثريةً بين السنة تدعمُهُ؛ لكنه لا يستطيع التحالُف مع المعارضة انتخابياً لأنّ مصالحه ضدّ القضاء؛ رغم إصراره على مُراعاة المسيحيين، أي أنه يسلّم بالدائرة المسيحية (الأولى) في بيروت! وهو لا يستطيع العودة للتحالف مع أمل انتخابياً، لأنه بذلك يبتعدُ عن المعارضة،ا لتي تصرّح بالتحالُف معه حتى الآن!
إنما السؤال المهمُّ أيضاً: لماذا انقلبت السياسة السورية في لبنان، فوافقت على فكرة القضاء، التي تهدّدها بزيادة عدد خصومها في مجلس النواب؟ هل لأنها تريد مساعدة أنصارها بين المسيحيين بالاستجابة للرأي العامّ المسيحي؟ أم أنها تريد مسالمة البطريرك الماروني بإعطائه ما طلبه؟ أو أنها من الضعف الآن في صراعها مع الولايات المتحدة، والقرار الدولي رقم 1559 بحيث تؤجّلُ متاعبها مع الداخل اللبناني إلى فُرصةٍ أخرى أو إلى ظروفٍ أُخرى؟!
والأمر الآخَر: أين تبقى المقارنة بين الوضعين اللبناني والعراقي؟ المقارنة بالعمق تكمن في وجود غَلَبة طائفية شيعية في العراق، وإسلامية في لبنان. وما يقولُهُ العلمانيون واليساريون والتعدديون ما برزت صحتُهُ حتى الآن. هم يقولون إنّ الشيعة بالعراق وبلبنان، والسنة بالعراق ولبنان، والمسيحيين بلبنان، ليسوا موحَّدين طائفياً، ولابد من تطوير أحزاب سياسية على مدى البلدين غير طائفية، بحيث تصحُّ فعلاً مقولة المجتمعات التعددية. لكنّ الواقع أنَّ الشيعة بلبنان توحدوا وما يزالون تحت الراية الطائفية، كما توحدوا بالعراق تحت الراية السيستانية وبينهم المتدينون والعلمانيون. والسنة في لبنان موحَّدون طائفياً إلى حدٍ كبير من وراء الرئيس الحريري. ولهذا فالمسيحيون اللبنانيون الذين انكمشوا في مناطقهم الخاصة، والدروز الذين ما زادوا في منطقتي الشوف وعاليه منذ قرنين؛ يخشون على هويتهم الدينية والسياسية، ويريدون ضماناتٍ سياسيةً في النظام للاستمرار والاستقرار والازدهار، وقانون الانتخاب أحد وجوه حفظ الهوية هذه. لكنّ هناك أُفُقاً يمكن أن يحفظ التماسُكَ الوطنيَّ في العراق ولبنان، ويفتح الطريق لمستقبلٍ غير طائفي، دونما إخلالٍ بالهويات المحلية والدينية. وهو في لبنان التوافق والشراكة، والدوائر الوسطى، وفي العراق اللامركزية ونظام المجالس المحلية والبرلمان الاتحادي ومجلس الشيوخ. لكنْ ليست هناك حتى الآن نخبةٌ سياسيةٌ تنظر بعيون المستقبل، وها نحن في السودان والعراق نشهد مسيرةً نحو الفيدرالية فالكونفيدرالية، وقد نشهدُها في لبنان مع الخروج السوري. فالطريفُ في المشهد الآن أنّ الأميركيين يبررون باعتبارهم يحافظون على تماسُك البلاد، وأنَّ السوريين في لبنان هم الذين كانوا أكثر عنايةً بصون الوحدة الوطينة اللبنانية! ثم إنَّ الطريف وغير الظريف أنّ دُعاة التعددية المعولمة في العالم العربي، لا يستطيعون أن يفسّروا لنا لماذا تضعُفُ الدولة، ويضعُفُ التماسُك الاجتماعي والسياسي في مجالنا في عصر العولمة؛ بينما تقوى الدولة، ويقوى التماسُك في أكثر انحاء آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في عصرالعولمة أيضاً؟!