تفرض الانتخابات العراقية تحديا أوسع نطاقا مما يجري في العراق، على أهمية ما يجري هناك بذاته. ويكمن الخطر الحقيقي الأوسع في تعميم الانقسام بين الشيعة والسنة على امتداد العالم العربي واكسابه طابعا أيديولوجيا بل وثقافيا يتجاوز المستوى السياسي ويحدده بل ويؤطره في نظريات سياسية ذات مزاعم تاريخية ومستقبلية.
روج بعض الكتاب الذين ينتمون اسما للطائفة الشيعية ويعيشون في الولايات المتحدة لنظرية ترى في التشيع أكثر من كونه اجتهادا دينيا وتملأه بمحتوى ايديولوجي وسياسي ذي عمق عابر للتاريخ: أي فكرة أو فحوى أو ماهية مستقلة ومتعالية وراحلة مع الزمن تجمع عبر التاريخ عناصر الثورة على الأمر الواقع بالطريقة التي شرحها هيجل في فلسفته للتاريخ. ويقود هذا المنظور منطقيا للدفاع عن فكرة الدولة الشيعية باعتبارها تتويجا لتاريخ ومستقبل بذاته منفصلا عن التاريخ والمستقبل العربي والاسلامي العام.
والحقيقة أن هذا المشروع الفكري والسياسي لا علاقة له بالتشيع كاجتهاد ديني بل ولا علاقة له بالعقائد الشيعية ولا بالمستوى السياسي والاجتماعي لحياة الجماعة الشيعية العربية. بل ومثل تزويرا نظريا ملحقا بسلسلة أعمال التزوير والاغتصاب الفكرية التي مهدت ودفعت وبررت الغزو الأميركي للعراق واستهدفت فصل العراق عن محيطه العربي والاسلامي الأوسع. إن نظرة واحدة للتاريخ العراقي تقطع باستحالة هذا الفصل حتى من منظور الفلسفة المثالية الهيجلية. فالعراق هو الخلية المضيئة الأكبر في التاريخ الثقافي العربي، والعراق لا يقوم إلا بهذا التاريخ، ولا ينهض مستقبله بدونه.
وعلى الجانب الآخر استمعنا لتصريحات من جانب زعيم عربي يحذر من بزوغ حزام سياسي شيعي يمتد من ايران الى لبنان، وهو تحذير متطير يرى في التشيع تهديدا سياسيا. وأبرز جوانب التزوير في هذا التصريح أنه يماثل صرخة "الشيوعيون قادمون" التي أطلقت الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، ويتضمن دعوة لتعبئة سياسية مضادة "للخطر الشيعي". وبكل تأكيد فإن هناك على الجانب الشيعي من ينتظر هذه الصرخة ليعبىء الجماعة الشيعية باعتبارهم "أصحاب عقيدة خاصة" أو دور خاص ومستقل في التاريخ والمستقبل، وليحذر من عودة ما يراه كعصر لاضطهاد الشيعة في التاريخ والحاضر العربي والاسلامي.
لدينا إذن عدة فكرية تتجمع بيد عناصر وقوى غير مسؤولة لتسخين ما يرى باعتباره "حدودا" عقيدية وجغرافية وسياسية بين العرب من انتماءات شيعية وسنية، بل ونري انسيابا واقعيا لمشروع انتهازي وتآمري لإثارة صراع شيعي سني على امتداد العالم العربي.
إن الطبيعة الانتهازية لهذا المشروع تظهر على الجانبين: أي الذين يدعون للشيعية السياسية والذين يصرخون بالدعوة لمناهضة "الخطر الشيعي". فكل من الطرفين يبدو جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية اليمينية الأميركية المتطرفة، وصار موضوعيا جزءا من المؤامرة - الحقيقية هذه المرة- التي يدبرها المحافظون الجدد لانقاذ مشروعهم الامبراطوري في المستوى العربي.
إذ ليست هناك مشكلة في نشر واذاعة أفكار معينة أيا كانت. وقد أطلق كثير من الكتاب الشيعة في التاريخ العربي الاسلامي أفكارا مشابهة دون أن يكون لها تأثير أو نفوذ حقيقي على الفكر أو الممارسة السياسية للجماعة الشعية. كما أن التاريخ العربي الاسلامي حافل بالأفكار التي تعبىء سياسيا ضد الاجتهادات الشيعية وتطلق ضدها شتى الاتهامات وتبرر مختلف صور الاضطهاد الديني. والواقع أن التأثير الحقيقي لتلك الدعوات الانقسامية والاضطهادية تصاعد عندما تعامل التيار الرئيسي للفقه والفكر السياسي العربي والاسلامي مع هذه الأفكار بصورة ابهامية. ولذلك فإن الاستجابة الصحيحة هي مناقشة تلك الأفكار والدعوات المتعاكسة وتجاوز كل ظلال ممكنة لها في الممارسة السياسية الواقعية.
لا تشكل تلك الأفكار خطرا بذاتها لأنها ذات طبيعة انتهازية واضحة. كما أنها واضحة الزيف في التاريخ والواقع العربي حتى في العراق بل وبالذات في العراق. فكما يتفق المؤرخون الجادون والمحترمون بالفعل مثل حنا بطاطو ونيكي كيدي تشكلت في العراق تاريخيا جماعة قومية عربية من الجماعة الشيعية والسنية معا، وغابت تدريجيا الحدود السوسيولوجية بين الجماعتين وخاصة في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. ولم تكن الصراعات المذهبية تمارس أبدا باعتبارها انقساما بين عرب وغير عرب أو مسلمين وغير مسلمين، بل استمدت تلك الصراعات طاقتها الحقيقية من الاعتبارات والدوافع السياسية الانتهازية دون تأثير يذكر على حس الانتماء الى دين واحد وأمة واحدة. وهي تشبه في ذلك الصراعات السياسية والحروب الأهلية التي وقعت في تاريخ أي جماعة سياسية وثقافية وقومية متحدة. ومنذ بروز الحركة القومية العربية برز قانون عام، وهو أن مراحل الأزمة والانتكاس تجلب معها احياء مصطنعا للانقسام الشيعي السني، بينما عززت الانتصارات والانجازات النهضوية حس الانتماء المشترك. وحتى النظام الخوميني لم يكن يتلاعب الا على الهامش بالبعد الطائفي في ممارسته السياسية. ويتهم القوميون الفرس الثورة والنظام الخوميني بأنه "عربي التوجه"، وهو بالفعل انتصر لقضية فلسطين رغم أن الشيعة لا يمثلون نسبة تذكر من الشعب الفلسطيني. ولم يتردد أحد في تأييد نضال حزب الله لهزيمة الاحتلال الاسرائيلي لأنه يتكون من الشيعة أو حتى لأنه يتلقى دعما من النظام الخوميني في ايران. ونظر العرب من المحيط الى الخليج لانتصاره السياسي والعسكري باعتباره نصرا ولو تكتيكيا للعرب ضد اسرائيل، وربما يكون الانتصار السياسي الوحيد الذي سجله العرب في نضالهم ضد اسرائيل منذ نشأتها، حتى الآن.
أما الخطر الحقيقي فيبرز عندما تتجه الممارسة السياسية بالفعل للتبلور على أسس مذهبية لتلهب حدود التماس الوهمية بين الشيعة والسنة. وربما يكون هذا هو الخطر الحقيقي للانتخابات الحالية من حيث نتائجها وآثارها السياسية المستقبلية. وقد نتج هذا الخطر عن أخطاء كبيرة وقع فيها الشيعة والسنة العراقيون معا، وعن خطأ تجاهل ما يجري في العراق من جانب العالم العربي. فقد كان ولا يزال من الممكن أن يتأسس توافق حقيقي للآراء بين الشيعة والسنة يجمع بين أهم المطالب التي تبلورت على الجانبين: أي إنهاء الاحتلال الأجنبي للعراق وهو ما يراه السنة أولوية، وبناء دولة ديمقراطية تنهي التراث الصدامي مرة واحدة والى الأبد وهي القضية التي تمنحها القيادات الشيعية الجديدة أولوية كبرى. ونعتقد أن التصريحات الأخيرة للسيد عبد العزيز الحكيم تمثل بداية مناسبة على هذا الطريق. وهي مجرد بداية تحتاج الى عملية تعزيز وتقوية عملاقة حتى يمكن شد الجماعة السنية بعيدا عن مدرسة صدام حسين في السياسية وهي المدرسة التي فرضت أسلوبا للمقاومة العسكرية العنيفة في العراق غير مقبولة شيعيا، وحتى يمكن شد الجماعة الشيعية بعيدا كلية عن نظام الاحتلال الأميركي وهي المدرسة المرفوضة سنيا بكل قوة.
والواقع أن هذه العملية تحتاج الى كل جهد ممكن من جانب العرب خارج العراق. إذ يمثل الصمت على المحنة العراقية جريمة حقيقية من جانب الرسميين العرب، بل ومن جانب المثقفين والشخصيات العربية العامة وهيئات المجتمع المدني على امتداد العالم العربي. واذا استمر هذا الموقف منعدم المسؤولية لا يجب أن نواصل اتهام المتلاعبين بالطائفية من الخارج والداخل. فسوف نكون - نحن العرب- من يستحق اللوم.