حتى الآن، قام آلاف المعلقين من كافة أنحاء العالم بتشريح معنى وتداعيات الخطاب الافتتاحي، الذي ألقاه بوش في واشنطن في العشرين من يناير الجاري. وفي هذا الخطاب القصير الذي استغرق 20 دقيقة بالكاد، والذي ركز بشكل رئيسي على السياسة الخارجية، جاء ذكر كلمة "الحرية" 27 مرة، في حين لم يرد أي ذكر على الإطلاق لكلمتي الإرهاب والعراق. بالنسبة للبعض، بدا الخطاب وكأنه إعادة تأكيد على القيم الأميركية الأصيلة في هذا الوقت الذي يتعرض فيه العالم لتهديد الإرهاب الذي ترعاه بشكل مباشر أو غير مباشر، أنظمة استبدادية ترفض أن تمنح شعوبها حقوقها الإنسانية الشاملة.
بيد أن القلق انتاب النقاد بسبب دعوة الخطاب إلى المزيد من الأحادية والاستثنائية، في الوقت الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة لا تحظى بالقبول في معظم دول العالم، وتتعرض فيه مواردها العسكرية والاقتصادية إلى استنزاف كبير.
أما الشيء الذي لم يكن متوقعا على الإطلاق فهو صدور بعض أصوات الاعتراض من جهة بعض مؤيدي بوش المخلصين من المحافظين، الذين عبروا عن انزعاجهم من رغبة بوش الملحة في منافسة سلفه الديمقراطي التاريخي في البيت الأبيض "وودرو ولسون"، الذي ألهم فكرة إنشاء عصبة الأمم ولكنه لم يكن قادرا على إقناع مواطنيه بدعمها. وبعض النقاد مثل "بيجي نونان"، وهو كاتب خطابات سابق للرئيس بوش، وجدوا أن الخطاب قد اتصف بصبغة" مثالية سامية" مبالغ فيها، وأنه لم يتطرق إلى حقائق الحياة على أرض الواقع. ووصف نقاد آخرون الخطاب بأنه كان أشبه ما يكون بـ" وعظ ديني" يستمد عباراته من الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة.على أن أكثر الانتقادات خطورة جاءت من جانب هؤلاء الذين يؤمنون أن الرئيس يربط الولايات المتحدة باستراتيجية لمواجهة الطغيان أينما وجد.
يعني هذا ضمنا أن حلفاء أميركا مثل مصر وباكستان والسعودية، وكذلك حلفاءها المفترضين مثل روسيا والصين، سيخضعون لمعايير جديدة من التدقيق، في وقت لم تكن فيه مساعدتهم في الحرب على الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة أكثر أهمية مما هي عليه الآن. وقد قاد هذا الكثير من المراقبين إلى بذل جهد كبير لحل الشفرة الحسابية التي قامت الإدارة بموجبها بترتيب أولوياتها الخاصة بمواجهة الأنظمة المستبدة.
أما أولئك الذين نال الخطاب رضاهم، فردوا بالقول إن بوش قد تعمد أن يجعل ملاحظاته عامة، وأن الرسالة التي تضمنها الخطاب تعمدت البعد عن افتعال الشجار مع روسيا أو الصين. وذهب هؤلاء إلى القول إن الرئيس بوش سوف يكون أكثر تحديدا، عندما يقوم بإلقاء خطابه عن" حالة الاتحاد" أمام الكونجرس في الثاني من شهر فبراير المقبل. ففي ذلك الوقت، من المتوقع أن يقوم الرئيس بالحديث عن العراق وإيران والصراع العربي الإسرائيلي. فهذه هي الصراعات الذي يدعي مؤيدو بوش أنه قد ألمح إليها في خطابه الافتتاحي. ففي مؤتمر صحفي عقد في السادس والعشرين من يناير الحالي، شعر بوش أنه بحاجة إلى توضيح الصورة، والتقليل من أهمية المزاعم التي ذهب البعض إلى ترديدها، والقائلة إن بوش على وشك القيام بشن حملة عالمية للإطاحة بأنظمة الطغيان.
إن الأثر الدائم لرسالة بوش سوف يتأثر بالانتخابات العراقية: فإذا ما زاد عدد العراقيين المشاركين في تلك الانتخابات عن 50 في المئة، واقتصر العنف على أهداف قليلة، فإن بوش والحكومة العراقية المؤقتة سيستطيعان حينئذ أن يدعيا أنهما حققا انتصارا ما. أما إذا لم يمض الأمر على ما يرام، ورفضت أغلبية السنة المشاركة فيها، وتبع ذلك اندلاع أعمال عنف، فإن كل البلاغة الخطابية التي اتسم بها خطاب بوش الافتتاحي ستبدو وكأنها مجرد كلام فارغ وغير ذي صلة بالواقع.
لقد جعل بوش من ديمقراطية العراق- وليس أسلحته للدمار الشامل-حجر الزاوية في رئاسته، والسبب الذي استند إليه في شن الحرب. وتركة بوش، وكذلك مستقبل حرية العراق، سوف يتحددان خلال الشهور القادمة. فخلال تلك الفترة سوف يكون بإمكاننا الحكم بأن الخطاب الافتتاحي لبوش كان كلاما فارغا من المعنى، أو أنه كان فعلا يمثل منعطفا مهما في العلاقات الدولية أو أنه يؤشر إلى أن جورج بوش قائد سوف يحظى بإشارات إيجابية في سجلات تاريخية لم تكتب بعد.