كان يمكن ان يبقى الكلام المتعلق بالتنمية السياسية والصادر عن اعلى المستويات في الاردن مجرد كلام حتى لو كانت هناك وزارة تهتم بهذه الناحية, ففي المنطقة ما يكفي من المشاكل لجعل كل نظام يهتم بما يدور حوله، ناسياً الهموم الداخلية والاستحقاقات التي يمكن ان تترتب عليها, تلك هي القاعدة، وهي قاعدة جعلت بعض الدول تفكر في ما اذا كان ضروريا اجراء انتخابات بلدية حقيقية واعطاء المرأة حق الترشح والتصويت,,, او حتى السماح لها بقيادة سيارة.
في الاردن، الاستثناء هو القاعدة، ولذلك لا يمكن للهموم الاقليمية التغطية على الهموم الداخلية, على العكس من ذلك، ان تحصين الوضع الداخلي يعتبر الطريق الاقصر لتوفير القدرة على التعاطي بشكل صحي مع كل ما يدور في المنطقة من فلسطين الى العراق,,, الى التهديدات التي تتعرض لها دول في الخليج, تهديدات مصدر بعضها داخلي والبعض الآخر اقليمي.
كي لا يبقى الكلام مجرد كلام اعلن الملك عبدالله الثاني في كلمة وجهها الى شعبه الاربعاء الماضي عن اعادة النظر في التقسيمات الادارية في المملكة «بحيث يكون لدينا عدد من المناطق التنموية او الاقاليم التي يضم كل اقليم منها عددا من المحافظات، ويكون لكل اقليم مجلس محلي منتخب انتخابا مباشراً من سكان هذا الاقليم، ليقوم هذا المجلس بالاضافة الى المجالس البلدية المنتخبة في المحافظات بتحديد الاولويات ووضع الخطط والبرامج المتعلقة بهذا الاقليم بدل اقتصار هذه المهمة على صانع القرار في المركز، فأهل الاقليم ادرى بمصالحهم واحتياجاتهم,,,».
قبل كل شيء يدل هذا الكلام على مدى ثقة الملك عبدالله بشعبه ومدى عمله على تطوير التجربة الديموقراطية والتنموية على كل المستويات من منطلق ان «التنمية السياسية والاقتصادية والادارية والاجتماعية عملية متكاملة ولا يجوز التعامل مع اي واحدة منها على انها وحدة مستقلة او منفصلة عن غيرها وانه لا بد من توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في هذه المسيرة التي تحتاج الى جهد كل واحد من ابناء الوطن ودعمه».
ليست هناك ثقة بالمواطن الاردني فحسب، بل هناك ايضاً ثقة بأن الاصلاح والديموقراطية وسيلتان للتقدم وانه يجب عدم الخوف منهما, ولذلك شجع الملك عبدالله في كلمته العراقيين على المشاركة في الانتخابات لأنها «الطريق الواقعي الوحيد الذي سيمكنهم من تحقيق الامن والاستقرار واعادة بناء وطنهم والعودة به الى وضعه الطبيعي ومكانته المتميزة في المنطقة», كذلك هنأ الفلسطينيين بالانجاز «العظيم» المتمثل في «اجراء الانتخابات الرئاسية واختيار قيادتهم الشرعية باعتبار هذا الانجاز خطوة رئيسية وضرورية على طريق استعادة حقوقهم وبناء دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني».
قال العاهل الاردني باختصار ما لا يقوله سوى الحكام العرب الواعين الذين يدركون ان الاصلاحات على كل المستويات حاجة عربية اولاً وانه يجب تفادي التذرع بالوضع الاقليمي بما في ذلك القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل للتهرب من هذه الاصلاحات أكان ذلك على الصعيد السياسي او الاقتصادي او الاداري او الاجتماعي, على العكس من ذلك ان شعباً مثل الشعب الفلسطيني قادر عبر الاصلاحات على تطوير اوضاعه ومواجهة الاحتلال بطريقة افضل بما يعجّل في حصوله على حقوقه بما في ذلك اقامة دولته, وما ينطبق على الشعب الفلسطيني ينطبق على شعوب وحالات اخرى في المنطقة.
قد يكون لكلام الملك عبدالله بعدُ آخر, يتمثل هذا البعد في ان المنطقة تتغير وفي اسرع مما يعتقد، وهذا التغيير سيفرض في النهاية واقعاً جديداً, والخيار بين التفاعل معه ما دام هذا الواقع آتيا لا محالة او اختيار الجمود, وقد اختار الاردن بكل بساطة التفاعل مع الاحداث من جهة ومع ما يشهده العالم من تطورات من جهة اخرى, هذا الامر ليس جديداً عليه, وفي هذه الايام التي نقترب فيها من الذكرى السادسة لغياب الملك الحسين رحمه الله، لا بد ان نتذكر ان القيادة في المملكة الاردنية فهمت في اواخر الثمانينات معنى ما يشهده العالم من تطورات، فكان قرار فك الارتباط صيف العام 1988، وكان هذا القرار اللبنة الاولى على طريق بناء الدولة الفلسطينية التي للاردن مصلحة في قيامها, وفي نوفمبر من العام 1989 جرت الانتخابات النيابية الاردنية, كان ذلك في اليوم الذي سقط فيه جدار برلين, وكان سقوط الجدار مؤشراً الى ان العالم تغير وان الحرب الباردة انتهت بانتصار الديموقراطية على الكبت والظلم.
المهم الا يبقى الاردن استثناء وان يرى العرب الآخرون الذين يخشون من كلمة اصلاح ان مصلحتهم في اخذ المبادرة وتزويد بلدانهم بدساتير عصرية واشراك الشعب في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية, فهذه المشاركة تظل الرد الافضل على الارهاب والارهابيين والتطرف والمتطرفين، ذلك ان ليس بالكلام وحده يحارب الارهاب والتطرف بل بقرارات جريئة.
مرة اخرى ان عقدة الاردن يجب الا تحول دون اعتماد الخيار الاردني المتمثل في هذه القرارات والعمل على تطبيقها, كذلك لا يجوز التذرع بأن اميركا تريد الاصلاحات كي تصبح الاصلاحات سيئة, علما بأن الاصلاحات خشبة الخلاص لكل دولة تريد الانتماء الى العالم المتحضر بدل البقاء في أسر الجهل والجهالة والجاهلية.