زهير المخ: من بين الركام المتهاوي لنظام صدام حسين أطل فجر التعددية السياسية; فمنذ انهياره في أبريل (نيسان) 2003 قرع النظام السياسي الجديد بعنف على أبواب عراق ما بعد صدام معلناً نهاية عصر الدولة التسلطية. هذه الإطلالة لم تكن اقتحامية وبالتالي لم تندفع الكيانات والأحزاب السياسية لاقتسام الفراغ السياسي أو المطالبة بقطعة أكبر من الجبنة، بل بدا باكراً أنها تؤمن بدرجة أو بأخرى بتنافس البرامج للفوز بأكبر عدد ممكن من أصوات المقترعين في العملية الانتخابية.
إلا أن استعار التنافس على استقطاب أصوات الناخبين العراقيين يختزل في ثناياه برامج الكيانات السياسية وأجندتها تتجاوز الحصول على مقعد في المجلس العتيد إلى فضاء مستقبلي قد يحمل تغيرات شتى تتسق مع تفاصيل المشهد العراقي المائج بالاضطراب والتقلبات.
لكن ما يجدر الانتباه إليه، هنا، هو أن الأفكار والوعود التي طغت على برامج الكيانات السياسية الرئيسية تبدو لأول وهلة وكأنها تختلف بحسب اختلاف توجهاتها السياسية ومشاربها الفكرية، إلا أن قراءة متفحصة تشير إلى حقيقة أن البرامج الانتخابية للكيانات السياسية هذه هي برامج متشابهة في معظم بنودها الأساسية إلى درجة الملل خصوصاً لجهة الملف الأمني أو تبني الخيار الديمقراطي، مع فوارق لا تكاد تلحظ بين الكيانات السياسية ذات التوجه الديني والأخرى ذات التوجه العلماني في أسلوب المعالجة.
وعلى سبيل المثال، تتصدر قائمة «تجمع الديمقراطيين المستقلين» بزعامة د. عدنان الباجه جي، أو ما بات يعرف بالقائمة 158، قائمة الكيانات السياسية ذات المنحى العلماني، إلا أن خصوصية المجتمع العراقي، على ما يبدو، أعاقت القائمين على التجمع عن ترجمة توجهاتهم العلمانية إلى طروحات موثقة يتضمنها برنامجهم الانتخابي الذي بدا مشابهاً إلى حد بعيد للبرامج الانتخابية الأخرى ولا يختلف عن تلك التي طرحتها الكيانات السياسية ذات المنحى الديني كالتيار الإسلامي الديمقراطي بزعامة محمد عبد الجبار الشبوط والشيخ خير الله البصري، أو ما بات يعرف بالقائمة 124، فكلا الكيانين يطالبان في برنامجهما الانتخابي بدولة تنبثق من رحم صناديق الاقتراع وتشكل من مؤسسات منتخبة، وتعتمد في عملها التشريعات الدستورية، كما أنهما يطالبان بمساواة المرأة بالرجل على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية ومساعدتها في الارتقاء بالسلم الوظيفي والموقع السياسي، والأهم من هذا وذاك إن الكيانين يؤمنان بأن الإسلام مصدر أساسي من مصادر التشريع للدستور الدائم.
أكثر من ذلك، إن نظرة سريعة لبرنامج قائمة «اتحاد الشعب» في حملتها الانتخابية، أو ما صار يعرف بالقائمة 324، التي يتصدرها الحزب الشيوعي العراقي، يستنتج القارئ أن ثمة تشديداً مبالغاً فيه لناحية التأكيد على احترام الدين الإسلامي، وهو تأكيد شدد الحزب عليه كثيراً في الآونة الأخيرة، إن في أدبياته أو في صحافته.
ولعل أكثر ما يميّز البرامج الانتخابية للكيانات السياسية العراقية الرئيسية اقترابها في الكثير من بنودها وجزئياتها من لغة الشعارات وافتقارها إلى الآليات العملية والواقعية اللازمة للتطبيق، الأمر الذي يحرم هذه البرامج، ولو جزئياً، من بلوغ درجة الشفافية والمصداقية اللتين يستلزمهما الشأن العراقي وسط زحام التحديات التي تتهدد حاضر البلاد ومستقبلها.
* الأمن
* هذه القاعدة الذهبية تنطبق أشد الانطباق على الملف الأمني الذي تعاطت معه البرامج الانتخابية المختلفة بقدر كبير من التعميم بدون خوض في آليات التنفيذ أو تشخيص مشاكل بعينها، فقد اتسم برنامج قائمة «الائتلاف العراقي الموحد»، أو ما صار يعرف بالقائمة 169، بالتعميم حين أشار إلى «أهمية بناء مؤسسة أمنية وعسكرية قوية مخلصة لمصالح الشعب العراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية».
وكررت «القائمة العراقية» التي يتزعمها رئيس الوزراء اياد علاوي، والمعروفة بالقائمة 285، مطالبتها بـ«إعادة الأمن والاستقرار والعمل على تقوية وتعزيز الحماية على حدود البلاد لدرء أي خطر خارجي ولمنع الإرهابيين والمخربين من التسلل إلى داخل الأراضي العراقية». وينطبق الأمر ذاته على قائمة «عراقيون» بزعامة الرئيس غازي عجيل الياور، التي باتت تعرف بالقائمة 255، حيث شدد برنامجها الانتخابي على أهمية «بناء مؤسسة أمنية عراقية على درجة من الكفاءة». وأعاد حزب الأمة العراقي الديمقراطي وقائمته 324، صياغة الجملة ذاتها على نحو مختلف حين أشار إلى ضرورة «عودة الهيبة والاستقلالية للجيش العراقي والمؤسسات الأمنية الحكومية الأخرى من شرطة وقوات أمن ودفاع مدني».
أما قائمة «اتحاد الشعب»، فقد وضعت في صدارة اهتمام برنامجها «الإسراع في توفير الأمن والاستقرار الضروريين»، لماذا؟ «لتسريع إعادة الخدمات العامة وإعادة بناء مؤسسات الدولة وخاصة الشرطة والجيش والدفاع المدني وضمان عدم اختراقها من القوى المعادية». إلا أن هذه البرامج جميعها لم تتطرق إلى الكيفية التي ستبنى بها هذه المؤسسات الأمنية الجديدة التي تضع البلسم على الجروح المفتوحة التي خلفتها المؤسسات السابقة التي جرى حلها بعد الإطاحة بالنظام السابق، كما لم تركز هذه البرامج ولو عرضاً على دور بعض دول الجوار في تردي الوضع الأمني الداخلي، ما خلا برنامج قائمة «الائتلاف الكردستاني» أو ما صار يعرف بالقائمة 130، الذي أشار، وإن على حياء، إلى أهمية بناء علاقات وطيدة مع دول الجوار على أساس مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

* الملف الاقتصادي
* كما لا تخلو البرامج الانتخابية للعديد من الكيانات السياسية من دعوات لمعالجة جادة وسريعة للملف الاقتصادي المعقد، بل راح البعض يضع هذا الملف في سلم أولوياته الانتخابية باعتبارها المشكلة الأخطر في المجتمع العراقي وتشمل قاعدة عريضة منه. أكثر من ذلك، عمدت الكيانات السياسية المختلفة إلى توظيف مشكلة البطالة في برامجها الانتخابية ورفعت الشعارات التي تدعو إلى اجتثاث هذه الآفة الاجتماعية بأسرع وقت ممكن، إلا أن هذه البرامج هي برامج أقرب إلى النظرية منها إلى الواقع، خصوصاً في تعاطيها مع المشكلات الاقتصادية الرئيسية التي تمس الحياة المعيشية للمواطن العراقي وفي أساليب التصدي لها، حيث تبقى هذه المشكلات قلق العراقيين اليومي، وتبقى وعود التغلب عليها دون الارتقاء لمواجهتها ببرامج واضحة، مجرد شعارات خفاقة تقع ضمن خانة «الدعاية الانتخابية».
التعميم إذاً كان هو الآخر القاسم المشترك الأعظم بين البرامج الانتخابية لمعظم الكيانات السياسية العراقية. فقائمة «الائتلاف العراقي الموحد»، على سبيل المثال، شددت على أهمية «انتهاج سياسة اقتصادية متوازنة تضمن حل مشاكل البلاد، والعمل على إطفاء الديون العراقية، وإلغاء التعويضات، واستخدام الثروة النفطية في مشاريع التنمية الاقتصادية، وتحقيق الرفاه للمواطنين»، وكذلك «الاهتمام بتطوير الصناعة والارتقاء بها، وتطوير الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي»، وجميعها شعارات نظرية لا تتلمس احتياجات الواقع العياني العراقي ولا تنطلق منه.
أما قائمة «اتحاد الشعب» فقد شددت على هذه النقطة المفصلية في برنامج الحملة الانتخابية للحزب الشيوعي من خلال تأكيدها على أهمية إعادة بناء القطاع العام كمحرك للاقتصاد المحلي استلهاماً منها لنظرية «التطور اللارأسمالي» التي عفا عليها الزمن. وقد اكتفت قائمة «عراقيون» بالتشديد على ضرورة «وقف تدهور الاقتصاد»، كيف؟ ليس ثمة إجابة. كما اكتفت «القائمة العراقية» بالإشارة إلى «العمل على خفض معدلات البطالة»، وكأنها غاية في ذاتها. لكن ثمة ما يلفت النظر إليه حقاً في قائمة «حزب الأمة العراقية الديمقراطي»، الذي تبنى برنامجاً اقتصادياً «ليبرالياً» من خلال تأكيده على أهمية «تبني خطة لتفعيل القطاع الخاص وإطلاق آليات السوق والترويج للاستثمارات الأجنبية». كما لم يكن مستغرباً أن يتضمن البرنامج الانتخابي لقائمة «التحالف الكردستاني» على أهمية «إتباع سياسة اقتصادية صائبة على أساس اقتصاد السوق»، وهو استجابة منطقية للتطورات الاقتصادية الحاصلة في شمال البلاد.
* الفيدرالية
* تبقى قضية الفيدرالية باعتبارها القاسم المشترك الأعظم الآخر بين البرامج الانتخابية لمعظم الكيانات السياسية العراقية. فالفيدرالية بالنسبة إلى «تجمع الديمقراطيين المستقلين» ليست سوى صيغة لترسيخ التنوع ضمن الوحدة، وهي صيغة مطاطة إلى حد كبير. لكن الفيدرالية بالنسبة إلى قائمة «اتحاد الشعب» أكثر وضوحاً من سابقتها، حيث نص البرنامج الانتخابي لهذه القائمة على «ضمان حقوق القوميات عن طريق الفيدرالية لكردستان العراق»، فيما تأتي الحقوق الثقافية والإدارية لباقي الأقليات القومية بالدرجة الثانية من الأهمية، وهذا يعني بعبارة أخرى أن الأكراد دون غيرهم من القوميات هم بمفردهم أصحاب الحق في إقامة فيدرالية سياسية ـ إدارية في الشمال العراقي. ومن الطبيعي أن ينص البرنامج الانتخابي لقائمة «الائتلاف الكردستاني» على «إقامة نظام فيدرالي على أساس الاتحاد الاختياري بين مكونات الشعب العراقي». فأكراد العراق كانوا منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة على هامش تشكلها الفعلي، هذا التشكل الذي تأسس على قاعدة مركزية لها الحق في مصادرة حقوق الأقليات الأخرى عبرت عن نفسها بتوحيد الدولة تحت قبضة تسلطية متواصلة من عيار فضائحي.
الملفت للنظر على هذا الصعيد هو التنافس غير المعلن بين القوائم الانتخابية الرئيسية على «تمييع» قضية الفيدرالية و«تعويمها» بوسيلتين: الأولى تلك التي عبر عنها البرنامج الانتخابي لقائمة «الائتلاف العراقي الموحد» حين أكد على ضرورة العمل على «إقامة عراق دستوري وتعددي ديمقراطي فيدرالي موحد»، وهي جملة تصلح لأغراض الشعر أكثر مما تعكس رؤية سياسية محددة. أما الوسيلة الثانية فهي تلك التي تبناها البرنامج الانتخابي لـ«حزب الأمة العراقية الديمقراطي»، حين أشار إلى ضرورة «إعلان العراق جمهورية فيدرالية، حيث يجب أن يتكون من أقاليم يؤكدها الدستور وينص عليها القانون. وهذه الأقاليم هي عبارة عن تقاسم للسلطة التنفيذية مع الحكومة المركزية في بغداد العاصمة في إطار تفعيل دور الدولة المؤسساتية وليس خطوة ممهدة للانفصال». وما يمكن استنتاجه هنا أن هناك دعوة صريحة لإقامة «أقاليم» عراقية وعدم الاكتفاء بإقليم كردستان لتطبيق الصيغة الفيدرالية، وهو ما يلمسه المرء اليوم في الدعوات التي باتت تتصاعد من كل حدب وصوب بتقسيم العراق إلى فيدراليات جغرافية، من بينها فيدرالية الفرات الأوسط والإقليم الجنوبي والإقليم الغربي ترتبط جميعها بالسلطة المركزية في بغداد بعلاقة ليست استتباعية.
وإذا ما وسعنا دائرة النظر في الجدل القائم بين البرامج الانتخابية بشأن قضية الفيدرالية، لوجدنا أن الشيعة أميل للتعويم والأكراد أميل للتمسك بالصيغة الفيدرالية. ولكن هل أن هذه الصورة السطحية صحيحة فعلاً؟ هل أن الفيدرالية مبتغى الأكراد وتعويمها مطلب أولئك؟ الواقع أن الأكراد لم يكفوا يوماً من التذكير بمطالبهم بالفيدرالية، ولا هم تخلوا يوما عنها.
وبما أن الأمور لا تختفي مجرد توقفنا عن النظر إليها، فإن الفيدرالية لم تنته من الوجود بمجرد أن صدام حسين ألغى بجرة قلم اتفاق (مارس) آذار 1970، فالتمايز القومي أمر حقيقي لا يوجد بمرسوم ولا يلغى بآخر، إنه تراكم حثيث لنوع من بناء الهوية الذاتية. لذلك فالتعويم بشأن المطالبة بالفيدرالية يثير تحفظاً مشروعاً عند الكثير من العراقيين، لأنه بالطبع يخفي أهدافاً أخرى، وفي الأساس لأنه يلغي الحق الطبيعي بالتعبير عن الذات السياسية، كل وفقاً لإرادته.
ومهما يكن أمر الاختلاف بين البرامج الانتخابية للكيانات السياسية العراقية، إن في توجهاتها السياسية أو في منابتها الفكرية، فالثابت اليوم أن العراقيين يعيشون حالة استنفار قصوى وحماسة على المشاركة في تحديد مصير العملية السياسية لرسم الخريطة المستقبلية للبلاد لفترة زمنية انتقالية، تسمح بالاندماج الوطني الحقيقي، بحيث يشعر كل مواطن عراقي بأنه جزء مكون وأصيل من النظام التعددي القادم.