أحياناً يكون الحدث أقوي من أية كلمات يمكن أن تعبر عنه، ومثال ذلك الانتخابات العراقية، أراها نقطة فصل في مستقبل بلاد الرافدين، وعندما يظهر مقالي هذا إلي النور، يكون اقتراع الناخب العراقي قد بدأ لتحديد مستقبله، وانتخاب مجلس تشريعي مهمته وضع دستور جديد للدولة ومجالس محلية ومن يدري ربما يتغلب في آخر لحظة الرأي القائل بتأجيل الانتخابات لبضعة شهور لحين توافر المناخ المناسب لذلك.
ولاحظت أن المهتمين بأحوال العراق وأهله انقسموا حول هذا الموضوع لفريقين، أحدهم يري أن تلك الخطوة مطلوبة كبداية تنتهي بجلاء القوات الأمريكية وحلفائها، واستقرار الأمن، وإقامة نظام ديموقراطي حقيقي بالبلاد يكون منارة ومثالاً يحتذي لدول الجوار المحكومة بالاستبداد السياسي. فالانتخابات هي نقطة البدء لتحقيق أهداف كبري، وتأجيلها يعني إعطاء الإرهاب صك انتصار، وأن أبو مصعب الزرقاوي أصبح هو القائد الفعلي للبلاد!!
ومن الوهلة الأولي يبدو هذا المنطق قويا، وأنت لا تستطيع الاعتراض عليه، لكن تعال معي نستمع إلي حجة الطرف الآخر! إنهم لا يعترضون علي الانتخابات في حد ذاتها، ولكن احتجاجهم ينصب في المقام الأول علي توقيتها.
ووجهة نظرهم أراها معقولة إلي حد بعيد.. إنهم يتساءلون هل يمكن إجراء انتخابات "حرة" وفي البلد قوات "احتلال"؟ كيف يجتمع هذا مع ذاك؟ حرية مع جيوش غازية برئاسة أمريكا تحتل بلدك؟ وهل هناك سابقة في أي دولة من بلاد العالم تقول إن المواطن يمكن أن يدلي برأيه في حرية واطمئنان في ظل فوهات المدافع، ونقص السيادة وانعدام الأمن.

وهنا أنتقل بك إلي السبب الآخر الذي يستند إليه هذا الفريق لتأجيل عملية الاقتراع.. فالعراق يشهد موجة من العنف الدموي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث علي الأقل، وإن كان يماثل ما جري قديماً أقصد إسقاط المغول للخلافة العباسية سنة 656 هجرية، ومحو مدينة بغداد من الوجود بعدما ارتكبت قوات التتار الغزاة مذابح مروعة أبادوا فيها معظم السكان، وكان ذلك عام 1258 بالتاريخ الميلادي، فهل تلك الاضطرابات والإرهاب المزدهر هو المناخ الملائم لإجراء انتخابات حرة ومصيرية يتحدد فيها مستقبل البلاد كله لأمد بعيد؟
وأسألك يا سيدي القارئ: إلي أي الفريقين تنحاز؟.. أري أن لكل فريق نقطة ضعف!! الفريق الأول فشل في استقطاب جزء مهم من الناخبين وهم أهل السنة، وأنصاره أساساً من الشيعة والأكراد.
ومن العجائب في هذا الموضوع أن تري العدوين اللدودين في خندق واحد.. أقصد إيران وأمريكا، وطهران لا تقل حماسة عن واشنطن لإجراء الانتخابات!! وهذا بالطبع شيء غريب وأمر لافت للنظر جدا، ومهما ادعي أنصار الاقتراع أن الجماهير قد زحفت علي المراكز الانتخابية معلنة رفضها للعنف الدموي، فسيظل الفشل ملازماً لكل هؤلاء طالما أن كتلة أساسية من السكان كانت بعيدة، ولم تشارك إلا علي سبيل الاستحياء أو الاستثناء!
ويشكل هذا الأمر من وجهة نظري الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الحكومة العراقية، فلم تبذل الجهد المطلوب لإزالة مخاوف أهل السنة وتقديم الضمانات لهم بغرض جذبهم إلي مراكز الاقتراع! وقد شاهدت رئيس الجمهورية العراقي في حديث لفضائية لبنانية، وهو سني وينتمي إلي قبائل شمر ذات النفوذ الواسع، وكان في وسعه أن يلعب دوراً أساسياً في هذا الموضوع خاصة في إقناع رجال الدين من أهل السنة، لكنه لم يفعل، بل كان حديثه عجيباً وهو يتكلم عن أسباب إجراء الانتخابات في موعدها! قال إن حكومته لا تملك تأجيلها!! وإنما هي مجرد جهة تنفيذية!! والذي له الكلمة العليا في هذا الموضوع هي الأمم المتحدة! وكذلك الهيئة المسئولة عن الانتخابات!! ومن المؤكد أنك لاحظت أنني وضعت العديد من علامات التعجب اعتراضاً علي كلامه واحتجاجاً علي أنه مجرد صورة لا قدرة له في التأثير علي الأحداث.
وبهذه المناسبة أنتقل بك إلي الطرف الآخر المطالب بتأجيل الانتخابات وللحديث عن أوجه الضعف الموجودة في صفوفه، ويمكن تلخيصها في نقطتين علي وجه التحديد.. ومن المؤسف أولاً أنه لا توجد شخصية بارزة بين صفوفهم، بل كلهم من طراز رئيس الجمهورية "المبجل" وربنا يمسيك بالخير يا صدام حسين" فهو شخصية جبارة وإن كانت شريرة، وكنت أتمني واحدا مثله من أهل الخير يقود العراق إلي مستقبل جديد، لكن لا نجد من الشخصيات الشهيرة العراقية من هو مؤهل ليكون زعيماً تفرزه الأحداث ويقود قومه وتوقعت أن يظهر بين هيئة علماء المسلمين سيستاني سني يكون له تأثيره الكبير علي أهل السنة، ولكن خاب أملي!
ومن ناحية أخري فإن عودة الملكية الدستورية إلي العراق حلم جميل يفتقد إلي القائد المحنك!! فالمطالب بالعرش الهاشمي شخص لا وزن له، وغير قادر علي جمع الشارع العراقي حوله وتراه متعاوناً مع الأمريكان، وخرج علي إجماع قومه. ويلاحظ أن الملكية عادت إلي أسبانيا بعد خمسة وأربعين عاماً من حكم العسكر، وكان يمكن أن تعود من جديد إلي بلاد الرافدين، ولكن للأسف لا يوجد فرانكو ولا الملك كارلوس بالعراق وما يجمع بين هذا البلد الأوروبي وبلاد الرافدين أن ما جري من انتهاكات حقوق الإنسان في الأنظمة الملكية تعد مخالفات إلي جانب الجرائم والجنايات التي وقعت في ظل الحكم العسكري الذي سيطر لسنوات طوال علي "مدريد وبغداد".
وإلي جانب عدم وجود زعيم سني يلتف حوله الناس هناك تجد العديد من العمليات الإرهابية تنسب إلي طائفة السنة! وهناك فارق كبير بالطبع بين المقاومة المشروعة التي تجاهد ضد الأمريكان وعملائهم، وبين قتل الأبرياء في الشوارع بالسيارات المفخخة وغيرها، وخطف الأجانب الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري بالعراق! ومنذ أيام أذيع شريط لأبو مصعب الزرقاوي وضح فيه أنه يفكر بطريقة ظلامية! ويري الديموقراطية كفراً! فهو لا يطالب بتأجيل الانتخابات، بل يرفضها من أساسها، ويراها رجساً من عمل الشيطان!! وهذا بالطبع يسيء إلي أبطال المقاومة والإسلام كله.