الجانب الذي من الضروري تسليط الأضواء عليه بالنسبة لمبادرة جلالة الملك الأخيرة، المتعلقة بإنشاء أقاليم إدارية لكل إقليم منها مجلسه المنتخب الذي يدير شؤونه، هو دفع المسيرة الديموقراطية، التي إستؤنفت في العام 1989، الى الأمام وتوسيع أطرها وتحويلها من مجرد ديموقراطية النخبة التي تنحصر وتنحشر في النهاية في عمان الغربية الى الديموقراطية الشعبية المتواجدة في كل زمان ومكان والتي لا تستثني أي شريحة من شرائح الشعب الأردني.
إن المقصود بهذه الخطوة ليس مجرد التخفيف من أعباء الحكومة وجعلها اكثر تفرغاً للقضايا العامة الأكبر وللخطط الوطنية الشمولية ولا مجرد إعفاء مجلس النواب من القضايا الجهوية اليومية ليتفرغ تفرغاً تاماً للتشريع ومراقبة السلطة التنفيذية بل وأيضاً وفوق هذا كله إراحة أبناء المحافظات والمناطق النائية من وعثاء الاسفار الدائمة ومراجعة المركز بإستمرار وأيضاً الزج بالأردنيين كلهم في كل مواقع عملهم في التنمية المنشودة الشاملة الاقتصادية والإجتماعية والسياسية.
لقد مرَّ على إستئناف المسيرة الديموقراطية، التي كانت أوقفتها ظاهرة الإنقلابات العسكرية التي إجتاحت المنطقة في عقدي خمسينات وستينات القرن الماضي، نحو ستة عشر عاماً ومع ذلك فإن المحافظات والأقاليم النائية لم تعرف منها إلا مواسم الإنتخابات البرلمانية إذْ جرت العادة ان ينتقل العرس بعد ذلك الى عمان الغربية حيث الصحافة بكل ألوانها وأشكالها وحيث مبنى النقابات المهنية الذي حولته الممارسات الحزبية الخاطئة والتجاوزات على القوانين النافذة الى ما يشبه الورم الخبيث على خد ديموقراطية النخبة التي لا يشارك فيها في حقيقة الأمر أبناء المدن والأرياف والبوادي البعيدة.
إن «الديموقراطية» ليست قطعة موسيقية جميلة ولا حداءً يقال كل أربع سنوات مرة كما أنها ليست مسحة «كافيار» فوق شريحة من «البسكويت» المغمس بزبدة هولندية صافية لا تتمتع بها إلا الفئة القليلة في عمان الغربية.. إنها، أي الديموقراطية، مفتاح كل أقفال المعضلات التي تواجه الشعب الاردني، وأي شعب في هذه الكرة الأرضية، وإنها ستكون قاصــرة ومجرد «مكياج» خادع إن لم تمارسها الفئات البعيدة عن المركز وإن لم ينخرط في إطارها الأردنيون كلهم.
ستبقى الديموقراطية تقف على رأسها كالهرم المقلوب إن هي بقيت مجرد قطعة موسيقية تعزفها بعض النقابات المهنية، الموجهة من قبل أحزاب ولدت شمولية وكانت شمولية وستبقى شمولية، لإفتعال الأزمات المتلاحقة مع الحكومة والدولة وإن هي بقيت مجرد عرس موسمي لا يزور الأقاليم والأرياف والبوادي إلا كل أربعة أعوام مرة وإن هي لم يجرِ تطويرها من ديموقراطية القفازات المخملية الى الديموقراطية الشعبية التي يشارك فيها كل أبناء الشعب الأردني في كل مواقعهم وأقاليمهم وغير المقتصرة على القلة التي لديها القدرة على السفسطة الكلامية.. وأنا العبد الفقير الى الله من بين هؤلاء وبكل جدارة (... ) !!.
لا يمكن التقدم خطوة واحدة إذا بقيت الديموقراطية تمارس بهذه الطريقة وستبقى الخطط الطموحة بدون أي تنفيذ ومجرد وشوشات شاعرية لا تفهمها إلا الفئة الصغيرة، التي تتمتع باللياقة الكلامية، إذا لم تجرِ إعادتها الى الجذور وأعتقد جازماً ان هذا هو الذي أراده جلالة الملك بإعلانه عن مبادرة تقسيم المملكة الى أقاليم، ربما تكون ثلاثة أو أكثر، لكل إقليم منها مجلسه المنتخب الذي يسيّر أموره اليومية وشؤونه المحلية بعيداً عن «روتين» العودة بكل شيىء وفي كل أمرٍ الى المركز.
إنها خطوة واعدة ومبشرة ولذلك فإنه لابد من حمايتها أولاً وقبل كل شيىء من الذين سيحاولون إغراقها وخنقها بالإجراءات الروتينية القاتلة والذين سيحاولون التسلق على جدرانها كما تسلقوا على جدران مبادرات سابقة والمثل يقول: «إذا أردت ان تقتل فكرة رائعة فشكِّلْ لها ألف لجنة ولجنة».. والبساطة هي أم النجاح ولذلك فإن ما يعزز قناعة الأردنيين بنجاح هذه المبادرة الرائعة ان جلالة الملك طرحها وعرضها وأعلنها ببساطة وبصورة مباشرة.