قد يجد المتابع العربي صعوبة في فهم الاستقطاب الطائفي الذي برز بمخالبه الخطيرة في العراق بعد اجتياحه من قبل القوات الأجنبية وإسقاط النظام السابق. ومن الطبيعي أن لا يرى الشبان من المتابعين سبباً للخلاف بين مذاهب منبثقة من دين واحد. هذه خلاصة واقعية، بيد أن لهذه الظاهرة جذوراً تاريخية في العراق من بين جميع الدول العربية التي تذوب فيها التنوعات الطائفية وتتلاشى في بوتقة المذهب الواحد السائد، اللهم باستثناء لبنان حيث يبرز التنوع ويعبر عن نفسه بلغة سياسية من آن لآخر. ولكي يدرك المتابعون أبعاد هذا الموضوع الذي غالباً ما يشار إليه بتعابير من نوع فسيفساء أو موزائيك المجتمع العراقي، فإن على المرء ملاحظة التجذر العربي الإسلامي للتشيّع كحركة سياسية جايلت الصراع بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. حيث بقي العراق منذ نهاية خلافة الراشدين مسرحاً لهذا الاختلاف ، كما شهدت هذه البلاد المعطاء ظهور أهم المدارس الفقهية واللغوية، نتيجة لذلك ونظراً لأنها بلاد خصبة وعلى اتصال واحتكاك عتيق بالثقافات والأديان القديمة، في الداخل وفي الخارج. لذا فإن ظاهرة التنافر المذهبي والطائفي والإثني في العراق لا يمكن إلاّ أن تُرد إلى الدور الذي لعبته العناصر الأجنبية، محيلة ما هو صحي وحيوي في الثقافة الإسلامية إلى سبب للتشرذم وللانقسام اللذين يعبّران عن نفسيهما اليوم على نحو ينذر بالدمار وبالدماء.
وإذا ما غض المرء النظر عن الأصول الأولى لهذا الصراع، فإن عليه تتبع تعبيراته الخطيرة في تاريخ العراق الحديث حيث لعبت القوى الأجنبية بهذه الورقة الخطيرة، ليس حباً بمذهب معين أو لنصرة آخر، وإنما من أجل أهداف امبراطورية لا مصلحة للعراقيين فيها. ويدل كتاب العالم الاجتماعي البارز، الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، بجزئيه الأول والثاني خاصة) على أبعاد توظيف هذا التنوع لأسباب امبراطورية عبر الحقبة المستطيلة للحروب بين الامبراطوريتين التركية العثمانية والإيرانية الصفوية، إذ عمل القائمون على الإمبراطوريتين على إبعاد الصراع العسكري عن مركزيهما الإقليميين (تركيا وإيران) إلى العراق، الواقع بين المطرقة والسندان، عبر استفزاز العصبية الطائفية لشعب كان قد أكله الجهل وأعماه قصر النظر بعد قرون من النكوص الحضاري والتردي الثقافي. وقد أفرز هذا الصراع على الحلبة العراقية وفي داخل المجتمع العراقي قانوناً تاريخياً عراقياً متفرداً لايتغير، كما هي عليه قوانين العلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء، وخلاصته: أن الخلاف الطائفي يتشكل على نحو موجات مد وجزر، ذلك أنه يبقى كامناً منسياً وفاقداً لآثاره السلبية عندما تكون القوى الأجنبية بعيدة، بينما هو يتفاقم حد الدموية والتطهير العرقي كلما كانت القوى الأجنبية ذات سطوة ونفوذ في هذا البلد الضحية.
ولكي يقترب المرء أكثر من تاريخ العراق المعاصر، فإن عليه ملاحظة سياسة قوات الاحتلال البريطاني بعد دخولها العراق في العقد الثاني من القرن الزائل. حينذاك لم يكن النفط مكتشفاً ومهماً بالدرجة التي نعرفها الآن، الأمر الذي يفسر عدم تعمد التاج البريطاني ضم العراق إلى جسد الامبراطورية، التي لا تغرب الشمس عنها، خاصة وأن هذه البلاد لم تكن لتتجاوز في أهميتها الجيوستراتيجية كونها حلقة وصل جغرافية أو معبراً للشرق الأقصى (خاصة الهند)، زيادة على أهميتها كجزء من جسد الرجل المريض الذي أرادت الكولونيلات الأوروبية القضاء عليه وإقتسام أوصاله كمناطق نفوذ وانتداب. عندما وقعت العراق تحت الهيمنة البريطانية، لاحظ الضباط الإداريون في وزارة المستعمرات حقائق التنوع الإثني والطائفي في العراق بالعيون الثاقبة لبناة الامبراطورية، ثم قرروا إستعمال هذه الفروقات من أجل مصالح الامبراطورية ومن ثم مصالح سلطة الانتداب. فعندما وصل هؤلاء الضباط إلى العراق لاحظوا وجود زعماء قبائل عراقيين في منطقة الفرات الأوسط لا يقلون اعتزازاً بالنفس ولا يقلون ضراوة في القتال عن أي من الجنرالات البريطانيين أنفسهم، خاصة بعد أن خبروهم في ثورة 1920 عبر هذه المنطقة. ومن ناحية أخرى، لاحظ هؤلاء أن طبقة الموظفين الصغيرة التي تركها العثمانيون بعد هزيمتهم كانت من السكان المدنيين، خاصة السُنة، نظراً لأن العثمانيين كانوا يدّعون بأنهم من أهل السنة من أجل التمييز بين العراقيين ويشغلون صغار الموظفين من هذه الطائفة في دوائر الولايات العثمانية الثلاث.
لقد لاحظت الإدارة البريطانية المباشرة للعراق بأن هؤلاء الموظفين يمكن أن يخدموا في دوائر الدولة الجديدة، المملكة العراقية، فأعادوا تعيينهم من أجل الإفادة من خبراتهم الإدارية. وقد شهدت هذه المرحلة من تاريخ العراق ظاهرة أخرى لم تزل تترك آثارها على الحياة السياسية، وهي ظاهرة عزوف أبناء الشيعة عن الانضمام لدوائر الدولة الفتية وامتناعهم عن التطوع للجيش أو الانتساب لأجهزة الشرطة المستحدثة. ويُرد هذا العزوف إلى الدور الذي لعبه بعض رجال الدين الشيعة حيث اضطلع هذا البعض بدور سلبي أدى إلى بناء حاجز فقهي، ومن ثم نفسي، بين الشبيبة من ناحية، وبين التعيين في دوائر الدولة وأجهزتها العسكرية الوليدة، نظراً لإعلانهم تحريم استلام المرتبات النقدية من الحكومة البريطانية ومن ثم الوطنية، بوصفها أموالاً مغصوبة أو مغتصبة مستقاة من الضرائب. وقد كان لهذا النوع من التفكير الخطير آثاره على تاريخ الدولة العراقية حتى اللحظة عبر ما يجري اليوم من صراعات مؤسفة بين أبناء الدين والشعب الواحد. وعلى نحو معاكس، تدرج الشبان من الطائفة السُنية في الهيكل الحكومي والعسكري حتى صار لهم القدح المُعلّى في إدارة دوائر الدولة وأجهزتها العسكرية، بينما جاء تجاوز الشبان الشيعة للعُقد القديمة في علاقتهم مع أجهزة الحكومة متأخراً للغاية، مجايلاً لظهور المدارس الحديثة والحركات السياسية الوطنية، اليسارية والقومية والدينية. ولكنهم بقوا يراوحون في المراتب الدنيا. لذا ذهب بعض مؤرخي العراق الحديث إلى خلاصة اعتباطية ، ولكنها تستحق الملاحظة بسبب ما تنطوي عليه من دلالات على درجة عالية من الصحة، وهي: أن البريطانيين قد قاموا بعد احتلال العراق بإجراء نوع من التقسيم، تقسيم العمل، إذ صار العمل في دوائر الحكومة من اختصاص أهل السنة، بينما صار العمل في التجارة من اختصاص الشيعة. ولا تخلو هذه الملاحظة من الصحة حتى وقت متأخر (أواسط القرن الماضي)، إذ هيمنت الشخصيات المنحدرة من عوائل سنية على أهم المواقع في الجيش والشرطة وفي الوزارات، نظراً لخبرتها القديمة والمتوارثة، بينما هيمن التجار الشيعة على الحياة الاقتصادية والتبادل التجاري. وقد تحول البازار البغدادي (سوق الشورجة الشهير في قلب بغداد) إلى رمز للسطوة الاقتصادية للأغنياء من الشيعة. كما خدم عزوف الشبيبة الشيعية عن التدرج في الوظائف الحكومية في بروزهم في حقول أخرى إضافة إلى التجارة والاقتصاد، إذ برز هؤلاء في الجوهر الثقافي للمجتمع عبر ظهور أبرز الشعراء والكتّاب والمثقفين والأساتذة من بين الشيعة، والأكراد كذلك، كأقلية مستبعدة نسبياً (لاحظ أن أبرز شعراء العراق كانوا من الكرد-الرصافي والزهاوي- أو من الشيعة -الجواهري والسياب ونازك الملائكة، زعماء التجديد، من بين آخرين) وعلى الرغم من أن هذه ليست قاعدة مطلقة بالنسبة للطائفتين، فإن أية قراءة لتاريخ الثقافة العراقية الحديثة لن تخفق في الكشف عن هذه المعطيات المثيرة للملاحظة: ففي الوقت الذي كانت فيه مدينة عريقة كالموصل تجهز الجيش بأفضل الضباط، كانت مدينة عريقة أخرى كالنجف الأشرف تمطر بالشعراء، كما وصفها المستشرق الفرنسي جاك بيرك قبل وقت قصير من وفاته.
كان هذا نوعاً من التوازن الاجتماعي الطائفي الذي اختلقه البريطانيون (وليس أبناء البلد). بيد أن هذا التوازن التخصصي راح يستجيب للتغيرات وللتجاوزات بعد عقد السبعينيات من القرن الماضي، إذ أخذ الجوع والفقر والإهمال يجتاح الجنوب، بينما تعرض البازار البغدادي لضربات قوية أتت على الهيمنة الشيعية عليه. وقد توافق هذا مع توجه فئوي (لا سني ولا شيعي) أراد تهميش الجميع لصالح فئات مجهرية وأهداف سياسية ضيقة ركبت هذا التنوع الطائفي والعرقي لأهداف أنانية. وإذا بهذه الظاهرة تبقى تعتمل مكنونة في دواخل المرجل الاجتماعي في انتظار تكشفها حسب القانون التاريخي المشار إليه آنفا مع وفود السطوة الأجنبية التي أماطت اللثام عن هذا النمط من الاختلافات والتنوعات العرقية والدينية. ولم يعد الحديث عن هذه التنوعات عبر الفضائيات والصحافة شيئاً محرجاً أو معيباً، بعد أن كان المثقفون يأنفون منه وينأون بأنفسهم عن ذكره وحتى الإشارة إليه.
إن التنوع الإثني والديني والمذهبي في العراق هو من مزاياه الإيجابية، إذا كان كامناً يوحي باختلاف المشارب وآليات التفكير والقدرة على الإبداع والتنافس، ولكنه يغدو خنجراً في خاصرة العراق، إذا ما دفعت به القوى الأجنبية نحو السطح كأداة سياسية لا تنظر إلى مصلحة المجتمع العراقي الجميل.