فارس خشّان: لم يسبق لسلطة في لبنان أن مرّت بالواقع المأسوي الذي تعيشه حالياً هذه السلطة بالتحديد. فهي لم تبقِ شيئاً إلا وعرضته للبيع، لكن أحداً لا يتقدم شارياً حتى بأبخس الأثمان. وهذا تطور طبيعي، طالما ان هذه السلطة تفتقد، في ذهن اللبنانيين، أهم مقوّمات الوجود، فهيبتُها ساقطة كقدرتها على الايحاء بامتلاكها ما يُعينها على الاستمرار، في المرحلة المقبلة.
تنازلات ومزاد
فعشية التظاهرة التي دعا اليها "طلاب المعارضة" احياءً لذكرى الاستقلال، هدّدت السلطة بالويل والثبور اذا ما تجرأ أحدُ عل خرق قرار حظر التظاهر، ولكنّ الطلاب كسروا حاجز الخوف، فتراجعت السلطة عن تهديدها مقدمةً نفسها بمظاهر الديموقراطيات العريقة، فلم يقبضها أحدٌ اعتقاداً من الجميع انها أصبحت أعجز من أن ترفع عصا على رافضي وجودها، فما كان إلا ان نظمت "تظاهرة المليون" التي تحوّلت وبالاً عليها وعلى القوى المشاركة فيها.
وفي المرحلة التمهيدية لإعداد مشروع قانون الانتخابات النيابية، تعددت السيناريوات لإغراق المعارضة في "بحر الموالاة"، ولكن السلطة وجدت نفسها فجأة أمام خيار وحيد، فسارت "بروحية تقسيمات العام 1960"، وبدل أن تقطف الشكر والحمد وجدت نفسها أمام معارضة تعلن الانتصار في معركة قانون الانتخاب، فردّت السلطة بتقسيم بيروت لزرع الشقاق بين الرئيس رفيق الحريري من جهة وبين قوى المعارضة من جهة ثانية، واذا بها تجد نفسها وقد قدّمت المبرر لاندماج الحريري وتياره المنتشر على امتداد لبنان مع المعارضة،فثارت ثائرتها فهددت بالعودة الى الوراء ،لكنها وجدت ان الزمن السياسي يندرج تحت عنوان الى 7-7-الأمام سر7-7-.
وحاولت السلطة ان تبيع البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير هذا "الانجاز التاريخي للمسيحيين"، لتنال منه حظوة تعينها في معاركها الانتخابية، واذا بها تجده يُثبت أبوّته للمعارضة، من خلال تأكيداته انه يعمل لمصلحة توحيدها في وجه السلطة خشية منه على ان يؤدي تفرقها الى خسارة الانتخابات النيابية المقبلة، فردت بأن كشفت العروض التي قدمتها للعماد ميشال عون تمهيداً لعودته الى بيروت، علّها بذلك تدفعه الى عدم التوافق مع صفير في باريس على "وحدة المعارضة"، ولكن الاجتماع نجح وذهب عون الى أبعد من ذلك عندما اقترح آلية توحيدية على صفير عنوانها استعداد كل الأطراف على الترفع فوق الحساسيات الشخصية والعقائد السياسية إلى ما بعد 7-7-تحرير لبنان من الإحتلال السوري بموجب القرار 1559 او اتفاق الطائف7-7-.
وعملت السلطة بكل ما تملك من امكانات لتزرع الشكوك بين القوى المعارضة، فكانت شائعات حول موقع الحريري سرعان ما بدّدها بنفسه ،وكان المدح بوطنية وليد جنبلاط وعروبته بعد التخوين والاضطهاد ،فأتى الرد مزيداً من التصعيد في الخطاب واللهجة، وكان تحييد نسيب لحود عن التهجم على المعارضين وتاريخهم، الأمر الذي وجدت فيه "حركة التجدد الديموقراطي" مؤامرة، فذمّت بدل ان تمدح.
وحدة المعارضة وعجز السلطة
أمام هكذا واقع سلطوي هل ثمة خشية حقيقية على وحدة المعارضة؟
في السياسة كل شيء ممكن خصوصاً متى تقدمت الخصومات الشخصية على أي اعتبار آخر، لأن من شأن ذلك حبك تحالفات هجينة ،وبالتالي فالقدرة على تدمير وحدة المعارضة هي نطاق حصري للقوي المعارضة نفسها ،في حين ان السطة لا تملك سوى التضحية بأولادها وتخفيف حمولاتها وتفريخ الشائعات وتشغيل ماكيناتها الاعلامية المعروفة المداخل والمخارج.
ذلك ان المنطق العملي يمنع أي قوة معارضة ،مهما كانت ضعيفة او محتاجة ،من السيرفي اتجاه تعويم هذه السلطة الساقطة محليا وعربيا ودوليا ا،لاعتبارات عدة ابرزها اثنان:
اما الاعتبار الأول فلأن هذه السلطة اثبتت ان خصمها shy;وإن تخلت عن حلفائها بعد 7-7-أكلهم لحما ورميهم عظما7-7-shy; يبقى خصماً حتى ولو تراجعت امامه في مراحل حاجتها الى تبريد الشارع او الى كسب تأييده، وبهذا المعنى هي حيّدت الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة عن الأبعاد السياسية بما مكنها من إغداق الوعود على الجميع ،ولكنها سرعان ما توسلت نتائجها لتسويق تمديد ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود.
ويتمثّل الإعتبار الثاني في ان القوى المعارضة أدركت بالملموس عجز هذه السلطة عن الايفاء بوعودها حتى ولو كانت جادة عند إطلاقها، وبالتالي لا بد لهذه القوى من ان تنتصر في معاركها الأساسية والمحورية لتتمكن من تحقيق أهدافها، وبهذا المعنى فإن كل ما قالته السلطة لمصلحة الافراج عن قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع ثبت انه موضوع إلهاء هدفه شراء الوقت وتمرير الاستحقاقات. وهذا الموضوع طوي نهائياً مع توحد المعارضة في المطالبة بانجازه من خلال العريضة النيابية،ليتقدم فجأة،وبشكل حصري ، موضوع عودة العماد عون ،على خلفية ان عون لم يدمج تياره في مؤتمر البريستول وبالتالي هو مستعد للدخول في 7-7-بازار انتخابي7-7-.
عون والوعود والتائبون
ولكن هل ان عون في هذا الواردـ؟ وكيف سيعود الى بيروت من دون رضى السلطة؟ وهل يمكن ان تكون العروض المقدمة اليه مجانية؟
يُدرك عون، قبل غيره، ان السلطة تُحاول جذبه في هذه المرحلة على خلفية ما لديه من اعتراضات على أداء بعض الشخصيات المسيحية المعارضة، ولذلك تحركت في اتجاهه بقوة لتخفيف حدته عليها بالطريقة التي تلائمه في الانتخابات النيابية، ولا سيما حيث يملك قدرة تجييرية مشهودة اي في المتن الشمالي وبعبدا وكسروان،بحيث يخوض الانتخابات معارضا ولكن ليس مع المعارضة ،مستعيدا بذلك سيناريو الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة.
ولا يستطيع عون، والحالة هذه، ان يرفض محاولة السلطة تخفيف عدائيتها تجاهه، خصوصاً اذا مكّنه ذلك من عودة آمنة الى لبنان، لا تربطه بأي اتفاق تنازلي لا في الخطاب السياسي ولا في حرية التحالف.
وعلى هذه القاعدة فعون لن يقايض السلطة سياسياً وانتخابياً للأسباب الآتية:
أولاً: ان اصراره على وصف اجتماعه بالبطريرك صفير في باريس بالممتازينطلق من توافقهما على العمل معاً لما فيه مصلحة وحدة المعارضة وتوفير ظروف نجاحها في الانتخابات النيابية المقبلة.
ثانياً: ان معارضته لبعض الشخصيات المسيحية في المعارضة تنطلق من انّها ترفض ملامسة القرار 1559 تأييداً، وبالتالي فهو سيعمل، وخصوصاً بعد توافر غطاء بكركي، كل ما أمكنه لجذب هذه الشخصيات الى جانب القرار 1559، وليس لإعلاء شأن أولئك الذين يعتبرون ان وجودهم السياسي مرتبط بسقوط القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي.ففي ذهنه ان المطلوب توسيع دائرة التأييد للشرعية الدولية وليس توسيع دائرة الطامحين بالانقضاض عليها.
ثالثاً: ان عون يطمح الى توسيع دائرة المعارضة لتشمل شخصيات مسيحية كانت محسوبة على الموالاة، ما يمكن هذه المعارضة من خوض معارك انتخابية مضمونة النجاح، وعلى هذه القاعدة هو يسأل "عن الأسباب التي تدفعنا الى القبول "بارتداد" الحريري وجنبلاط وتبعدنا عن القبول "بارتداد" مسيحيين كانوا في السلطة سابقاً وخرجوا منها حالياً؟".
رابعا:ان عون وفي ضوء مراقبته ما يحصل في أروقة مجلس الأمن الدولي وفي كواليس الإدارة الاميريكة وما يدور من أحاديث في قصر الإليزيه بين الرئيس الفرنسي حاك شيراك وزائريه اللبنانيين وآخرهم البطريرك صفير،متيقن من أهمية مساهمته في وحدة المعارضة الحالية ولكنه يحاول تحسن شروط هذه الوحدة لتبقى فعّالة بعد انتهاء الانتخابات النيابية لتوتي ثمارها السيادية والسياسية المرجوة،وهذا بالتحديد ما أبلغه صراحة إلى صفير مباشرة وإلى جنبلاط من خلال أبو فاعور.
عودة الجميل :تشابه واختلاف
ولكن هل يعود عون حقاً الى بيروت؟
في العام 2000، وعشية الانتخابات النيابية تمكن الرئيس أمين الجميل من العودة نهائياً الى لبنان. هو اتخذ القرار بذلك، بعدما وصلته اشارات عن ان عودته ستكون آمنة. وحاولت السلطة استغلال ما حصل لتسويق معلومات عن انه عقد صفقة مع مكونات موالية ضد مكوّنات معارضة. لم يجهد الجميّل لنفي ذلك، فخاض المعركة الانتخابية منفرداً من خلال ابنه بيار ولم يتحالف مباشرة مع لائحة المعارضة آنذاك وامتفى بتبادل الأصوات معها. بعد الانتخابات، حاول مد جسور مع أركان السلطة، ولكنه وجد نفسه في حرب كانت رمزيتها تسليم "حزب الكتائب" لكريم بقرادوني. وقد تم تهديد الجميل، عندما رفع سقف معارضته، بفتح ملفات له كملف "صفقة البوما" ولكن السلطة عجزت عن ذلك، لاعتبارات كثيرة، منها المحلي ومنها الاقليمي والدولي.
حالياً يمكن للعماد ميشال عون ان يعود الى لبنان، ولكن عودته مختلفة عن عودة الجميل لأنه لم تكن هناك عوائق قانونية تحول دون ذلك او تحتاج الى مقدمات،في حين ان عودة عون تتطلب تمهيدات بالنظر لوجود مذكرة توقيف غيابية صادرة بحقه، وبالتالي فهو من دون هذه التمهيدات سيدخل لبنان، من خلال بوابة السجن ولو كان مستحيلا ان يطول اغلاقها عليه، رضيت السلطة ام أبت على اعتبار ان البلاد التي لم تعد تحتمل وجود جعجع في السجن لن تسمح بإدخال عون بعد نفي دام نحو خمس عشرة سنة.
وعلى هذا الأساس، فإن مصداقية السلطة في دعوتها عون الى العودة تفترض اسقاطاً لمذكرة التوقيف هذه، من خلال قرار يصدر عن محكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضي ميشال أبو عرّاج، لانها المحكمة المختصة بالنظر في ملف ادلاء عون بشهادته أمام الكونغرس الأميركي.
ويعتبر الثامن من شباط المقبل مفصلياً في هذا السياق. عون ينتظر ان تصدر المحكمة قراراً نهائياً يقضي بكف التعقبات بحقه لتصبح عودته "سالكة آمنة"، ولكن اذا لم يحصل ذلك وأرجأت المحكمة اتخاذ القرار لعلّة عدم التبليغ أو خلافه، الى وقت آخر، فهذا يعني ان السلطة تريده إلى جانبها في الانتخابات ولن تقبل بإقفال الملف من دون قيد او شرط،وحينها فان سيره قدما في قرار العودة سيكون على قاعدة التحدي وباتفاق شامل مع القوى المعارضة، وإلا فسيجد نفسه مضطراً لإرجاء تنفيذ القرار، مرة جديدة، في انتظار وصول القادرين على الايفاء بوعودهم الى السلطة.
ومن الآن حتى الثامن من شباط المقبل،لن يشهد خط المعارضةshy;عون أي تطور يذكر،ولكن بعد هذا التاريخ ستنشط الحركة بقوة،فحينها لا يعود مطلوبا أكل العنب فحسب بل قتل الناطور أيضا.