لقد شهد الأسبوع الماضي اجتماعين مهمين، جرى فيهما التحاور والنقاش، حول الوضع الاقتصادي الراهن للعالم. عقد أولهما في دافوس، الواقعة في قلب المناطق الجبلية الجليدية السويسرية، بينما عقد الثاني في مدينة بورتو أليجري، الواقعة في المناطق المشمسة من جنوبي البرازيل. على المستوى النظري، فإنه ما من شيء يمكن أن يكون أكثر اختلافا من القمتين المذكورتين. أما على صعيد الواقع، فإنهما تشتركان الهم ذاته، والمشغولية نفسها: داء الفقر العالمي، وكيفية علاجه. والحقائق الخاصة بهذا الداء، واضحة ولا تحتاج إلى أي تشخيص. فهناك في كوكبنا الآن، مليارا نسمة، يعيشون على دخل يقل عن دولارين يومياً. ليس ذلك فحسب، بل إن هناك ملايين من البشر، تعيش على دخل يومي يقل عن دولار واحد! ويتوزع هؤلاء بين سبعة ملايين يقطنون منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا، و300 مليون في شبه القارة الهندية، و147 مليوناً آخرين، في دول شرق أوروبا التابعة للاتحاد السوفيتي سابقاً، إلى جانب 50 مليوناً يقطنون في مختلف دول وجمهوريات أميركا اللاتينية.
أما المأساة الإنسانية الكبرى، فموطنها هناك، في ذلك الجزء من القارة السوداء، الواقع جنوبي الصحراء الإفريقية. فلنا أن نتصور حجم وفداحة المأساة، مع وجود 300 مليون مواطن، يفتقرون إلى مياه الشرب النظيفة الآمنة، وحيث تحصد الملاريا 3000 طفل يومياً، ممن هم دون سن الخامسة، بينما يحصد الإيدز 6000 يومياً من مواطني تلك الدول الراشدين! إن هذه الأرقام كلها، وصمة ما بعدها وصمة عار، في جبين العالم وضميره. ولكنها لا تقف عند ذلك الحد وحده، بل تتعداه كي تمثل خطراً حقيقياً على استقرار العالم كله.
في المقابل، فقد واصل "المنتدى الاقتصادي العالمي" عقد اجتماعاته وقممه في مدينة دافوس، على امتداد الخمسة وثلاثين عاماً الماضية. وقد عرف هذا المنتدى بأنه "نادي الأغنياء" أو "عاصمة العالم الرأسمالي" في تسمية أخرى. وفي دورته المنعقدة هذا العام، التقى نحو 2500 من الشخصيات القيادية العالمية، في مجالات السياسة والاستثمار ودوائر المال والصناعة والصحافة، بغرض التحاور حول مشكلات العالم والتعرف عليها، وتقديم المقترحات والأفكار الطامحة إلى حلها. هذا على صعيد الأغنياء. أما من جانب الفقراء، فقد ضمت القمة السنوية لـ "المنتدى الاجتماعي الدولي" المنعقدة في بورتو أليجري، ما يزيد على 100 ألف ناشط، يمثلون 150 دولة من دول العالم، كان الكثيرون منهم من البرازيل نفسها. وبين الحضور أيضاً، نحو 3000 آلاف صحفي، نهضوا بمهمة تغطية مداولات ألفي اجتماع وورشة عمل وسمينارات، جرى عقدها خلال أيام القمة، وكرست جميعها لقضايا مثل البيئة، السلام، ديون دول العالم الثالث، الأوبئة والأمراض المعدية، عدم عدالة الممارسات التجارية... وما إليها من قضايا.
ومن باب المقارنة، فإنه في وسع المرء القول إن قمة دافوس، صورت العالم كما هو، بفضائحه وسوءاته، بمفارقاته وظلمه، في حين صورت بورتو أليجري، العالم كما يحلم الكثيرون أن يكون. ذلك أن الشعار الذي رفعته القمة هو:"إن في الإمكان صنع عالم آخر بديل لعالمنا الحالي". لكن وعلى رغم هذا التباين والاختلاف الكبير بين القمتين، هناك قاسم مشترك أعظم بينهما هذا العام، تمثل في اتفاق القمتين معاً، على مشكلة الفقر، باعتبارها أم الأدواء، والظاهرة الأكثر تفشياً وإلحاحاً. وليس ذلك فحسب، بل لقد شمل هذا القاسم المشترك، الإيمان بأنه في الإمكان إزالة هذه الوصمة من جبين البشرية، فيما لو بذلت الجهود المخلصة من أجل مسحها ومحوها. وخلال العشر سنوات الماضية، توصل قادة العالم ومخططوه ومفكروه، إلى حقيقة أنه لم يعد في مقدور الدول الغنية المتقدمة، تجاهل مصالح وتطلعات شعوب الدول الفقيرة. فقد باتت البشرية جمعاء، تعيش في عالم شديد التشابك، وبالغ التعقيد من حيث التأثيرات والعلاقات، بحيث تداخلت فيه مصالح الفقراء والأغنياء معاً، على نحو غير مسبوق، وشرعت تلقي بتأثيراتها على عدة مجالات، منها الأمنية والصحية والتجارية، وتلك المرتبطة بالاتصالات أيضاً. وضمن ذلك وفي سياقه، فقد أصبح الإرهاب العالمي، الشغل الشاغل لكافة دول العالم وحكوماته دون استثناء. والحال هكذا، فليس من عجب أن يعيش العالم في دوامة مستمرة من الفزع من هذه الظاهرة، وأن يبذل قصارى ما لديه، في سبيل لجمه ومكافحته. ومع أنه صحيح أن الفقر بحد ذاته، ليس سبباً مباشراً لنشأة الإرهاب، إلا أنه صحيح أيضاً في المقابل، أن الشعوب الأكثر تخلفاً وفقراً، التي تضمر الشعور بالظلم والغبن، هي الأكثر قابلية للتعايش مع العنف والتسامح معه.
ومن التطورات الرئيسية التي شهدتها الساحة الدولية مؤخرا، بروز كل من الصين والهند، كقوتين رئيسيتين في الاقتصاد الدولي. وقد أثبتت تجارب هاتين الدولتين، أنه ليس من قدر ولا مصير الدول الفقيرة أن تبقى أبد الدهر على فقرها، إن هي اتبعت السياسات الصحيحة، وتوفرت لها السبل والمحفزات، وتبنت هي من الإصلاحات والسياسات الرشيدة، ما يعينها على الانعتاق من نير الفقر. وفي هذا، فقد تمكنت الصين على وجه التحديد، من تغيير رؤية العالم كله، إلى ما يمكن فعله وإنجازه في الدول النامية الفقيرة. وقد شكلت التجربة الصينية، مصدر إلهام وأمل للعديد من دول العالم الأقل نموا.
يذكر هنا أن "برنامج الألفية" الذي أطلقته الأمم المتحدة في عام 2000، رمى إلى خفض معدل الفقر العالمي، بنسبة 50 في المئة، بحلول عام 2015. وقد أضحى معلوماً أن ذلك الهدف لن يتحقق مطلقاً، ما لم تتم مضاعفة المساعدات التنموية المقدمة للدول النامية، من 50 مليار دولار سنوياً، إلى 100 مليار دولار كحد أدنى سنوياً. ومن جانبه دعا رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، أثناء حضوره في قمة دافوس، إلى تبني برنامج متكامل، مخصص للقارة الإفريقية. وقال بلير للقادة المجتمعين في القمة المشار إليها:"ندرك جميعاً أن هذا العام 2005، هو العام الذي يجب أن نعطي فيه دفعة قوية وجبارة للجهود التنموية". أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فقد دعا هو الآخر، إلى رفع المعدل الضريبي عالمياً، كي يخصص العائد منه، لتمويل مشروعات التنمية في الدول الفقيرة. واقترح شيراك، أن تفرض تلك الزيادات الضريبية، على المعاملات المالية العالمية، لا سيما تلك الأموال الكبيرة، المخصصة لمضاربات البورصة وأسواق الأوراق المالية.
من ناحية أخرى، أشار الرئيس البرازيلي لويس إجناسيو دا سيلفا، إلى أن الدول الغنية، تنفق سنوياً 900 مليار دولار، على ميزانياتها الدفاعية، في حين لا تخصص سوى مبلغ 5 مليارات دولار للمساعدات التنموية المقدمة لأكثر دول العالم فقراً! إلى ذلك مضى دا سيلفا قائلاً:"إن العجز عن تحقيق أهداف برنامج الألفية المعلن من قبل الأمم المتحدة، سيكون بمثابة أكبر هزيمة للإنسانية في هذا القرن. وتطلع دا سيلفا، إلى رؤية التغييرات في علاقات القوة، وهي تسري في لب مؤسسات ومعاقل التمويل العالمي، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. فالمعلوم الآن، أن 47 في المئة من قرارات البنك الدولي، تتخذها الدول الأكثر غنى وثراء. أما في صندوق النقد الدولي، فإن هناك خمس دول فحسب، تسيطر على نسبة 40 في المئة من القوة الاقتراعية فيه، بينما لا تتمتع 23 دولة من الدول الإفريقية الفقيرة فيه، إلا بنسبة 1 في المئة فحسب، من العدد الكلي للأصوات!.
وضمن هذا الاتجاه الدولي الداعي لمكافحة واستئصال جرثومة الفقر، فإن على دول الخليج أن تسهم بسخاء، في دعم البرامج الدولية والإقليمية المكرسة لخدمة هذا الهدف، بفضل ما حققته من قفزات مالية هائلة هذا العام، في ميزانياتها العامة، نتيجة لارتفاع عائداتها النفطية، جراء الارتفاع العالمي لأسعار النفط مؤخراً. وسوف تعود مساهمة كهذه على دول منطقة الخليج، بسمعة دولية حميدة طيبة، تعلي شأنها بين دول العالم، فضلا عن إعلاء يدها ودورها، في استئصال الداء الذي يؤرق البشرية جميعاً، ألا وهو جرثومة الفقر.