إن أحد أكثر الأمور غرابة، مما سمعته أثناء زيارتي لأوروبا خلال الأسبوعين الماضيين، القناعة الراسخة المطلقة بينهم، بأن فريق بوش يتململ الآن، ويحك جلده لغزو إيران، منعاً لها من تطوير أسلحتها النووية. ومن جانبي أقول لك: صهْ .. صهْ يا صاح، واقترب مني قليلا "لا تقل هذا للإيرانيين مطلقا"، إياك... ولكننا لن نغزو إيران ولا غيرها! كيف نفعل، ونحن لم يعد لدينا من القوات، حتى ما يكفي لإنهاء مهمتنا في العراق؟ أما ميزانيتنا العسكرية، فقد استنزفت تماماً، وأصبح جيشنا ومواردنا من الإنهاك، بحيث لم نعد قادرين حتى على غزو دولة صغيرة ضعيفة، مثل جرينادا. وفيما لو تخلت طهران عن المضي في تطوير برامجها النووية، فإن ذلك لن يكون إلا بفضل الجهود الدبلوماسية، التي بذلها الأوروبيون في إقناعها بأن تكف عن المضي في ذلك الطريق.
على مدى العامين الماضيين، ظل الأوروبيون يكررون القول لإدارة بوش، إن استخدامها للقوة، وسيلة لمنع الدول من حيازة وتطوير السلاح النووي، قد منيت بخيبة ماحقة في العراق. أما البديل الذي يراه الأوروبيون، فهو ما يعملون على تجريبه واختباره من وسائل الدبلوماسية الجماعية، التي تمزج ما بين الجزرة والعصا، أو العقاب والثواب. حسناً نقول للأوروبيين، كما نصيح تشجيعاً للاعبين في لعبة البيسبول:"عاشت ..أوروبا.. عاشت". في اعتقادي أن هذه القضية، تمثل محك اختبار حقيقي لقدرة أوروبا على طرح فكرتها الخاصة، بإمكانية بلورة أجندة مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، حول معضلة دولية خطيرة مثل "المعضلة الإيرانية". ذاك هو ما قاله تيموثي جارتون آش، أستاذ التاريخ بجامعة أوكسفورد، ومؤلف كتاب "العالم الحر: أميركا وأوروبا ومستقبل الغرب الباهر". نقول حسنا، إن قصف إيران وغزوها، ليسا بالأمر الجيد، ولكن ما هو البديل الجيد للغزو؟ نعود مرة أخرى إلى جارتون آش، الذي يرى أنه لا سبيل للأوروبيين إلى تحقيق أي نجاح في مسعاهم وتصديهم لإيران، إن هم واصلوا مجرد تقديم الجزر لها. هذا يعني أن عليهم أن يصارحوا إيران، بأنهم على استعداد لحمل عصاهم على رأسها أيضاً. وتتمثل هذه العصا، في تهديدهم لها، بإحالتهم ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي، بغية فرض عقوبات دولية قاسية عليها، إن هي رفضت الإذعان والتخلي عن برامجها النووية، مقابل تطبيع الغرب علاقاته الاقتصادية معها. وعلى حد قول المؤرخ جارتون آش، فكثيراً ما نشأ الشعور وراج القول، عن أن أوروبا ترمز إلى الضعف والتهاون، بينما ترمز أميركا للقوة والشدة دائماً. "لكن في الحالة الإيرانية، يجب أن تنقلب هذه الصورة رأساً على عقب، بحيث ترمز أوروبا هذه المرة إلى القوة والشدة، وتهدد طهران، باستعدادها لفرض العقوبات الاقتصادية عليها، بذات القوة التي يدعو بها البعض في واشنطن، لاستخدام القوة العسكرية ضدها". هذه الفقرة الأخيرة، تنسب هي الأخرى لما قاله جارتون آش.
وعلى الولايات المتحدة أن تساعد في هذا المنحى. ذلك أن الجزر الذي يتطلع إليه الإيرانيون، مقابل التخلي عن برامجهم النووية، لا يقتصر على الطموح في التمتع بعلاقات تجارية سلسة وخالية من العوائق مع الغرب فحسب، وإنما يتضمن الحصول على تأكيدات على أنه وفي حال تخلي طهران عن برامجها النووية، فإن ذلك سيشجع الولايات المتحدة الأميركية على عقد اتفاق معها، ينص على تعهد واشنطن بعدم الاعتداء عليها عسكرياً. بيد أن فريق بوش يبدي تردداً وتحفظاً على اتخاذ خطوة كهذه، لأنه يطمح إلى تغيير النظام الحاكم هناك. "إن في عقد اتفاق كهذا، خطأ فادحاً، فنحن نريد أن نسلط كل اهتمامنا على تغيير سلوك النظام الإيراني وتقوية شوكة الإصلاحيين، وإفساح الطريق أمامهم للتصدي لمهمة تغيير النظام هناك". ذلك هو ما يراه أعضاء فريق بوش.
عودة إلى جارتون آش، فإن من رأيه مجدداً، أنه إن كان للدبلوماسية الجماعية أن تنجح وتؤدي دورها في نزع فتيل الأزمة الإيرانية المتصاعدة، فإنه لابد للأوروبيين أن يمسكوا بعصاهم جيداً، في حين تقدم واشنطن ما يسيل له لعاب الإيرانيين من الجزر والمغريات والحوافز. لكنه يضيف قائلا إن مشكلة الأوروبيين أنه لم تعرف لهم شواهد تذكر، في التلويح بعصا القوة والتهديد باستخدامها. ومن هنا، فإننا نمر بلحظة بالغة الخطورة بحق. فماذا سيحدث بالضبط، فيما لو فشلت جهود التفاوض التي تبذلها كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مع طهران، علماً بأن هذه الدول الثلاث، هي بمثابة رأس الرمح في هذا المسعى، في حين فشلت واشنطن في استخدام القوة ضد طهران، بالنظر إلى ارتفاع تكلفة وخطورة الإقدام على تكرار شن الحرب على دولة أجنبية في الوقت القريب، حتى في حال نجاح تجربتها في العراق؟ فإلى أين ستسير بنا الأمور؟ وهل من سبيل آخر، يستطيع به الغرب الدفع ببرامج الإصلاح في منطقة الشرق الأوسط؟
من حسن الحظ أن هناك خياراً آخر، هو الطاقة الخضراء! وأنا نفسي من أنصار هذه الطاقة، التي يرى دعاتها، أنه وفي حال توجيه كل اهتمامنا إلى خفض أسعار الطاقة النفطية، بواسطة تشجيعنا لبرامج المحافظة على البيئة، وعن طريق التوسع في محطات الطاقة النووية، فإنه سيكون بوسعنا فرض الإصلاحات، بقوة تفوق أية استراتيجية أو وسيلة أخرى عداها. ويرفع دعاة هذه الطاقة، شعار "أعطني برميل نفط بـ 18 دولار... وخذ إصلاحاً سياسياً واقتصادياً، من الجزائر حتى طهران". فالمعروف عن شعوب هذه المنطقة جميعها، أن بها كثافة سكانية عالية، والقليل جداً من الوظائف. ولكنها تسد هذه الفجوة الاقتصادية الكبيرة بعائدات النفط. وإن أردت أن تدفع بها فعلياً نحو الإصلاح، فما عليك إلا بتقليص عائداتها النفطية. عندها ستضطر الحكومات لفتح وتحرير اقتصاداتها ومدارسها وجامعاتها، وتحرير نسائها، حتى يتمكن مواطنوها من المنافسة في سوق العمل. إن هذا هو الحل، بكل سهولته وبساطته! ولكن العقبة في هذا الطريق، هي إدارة بوش، التي لا تريد الإذعان لهذا الحل السهل السحري.