في النهاية لم يستطع المناهضون للاحتلال وللدولة التي خرجت من عباءته أن يعطلوا الانتخابات في العراق. في المقابل لم يستطع الأميركيون أن يمنعوا أنفسهم من استدراج قسم من العراقيين الى مقاطعة الاقتراع. كذلك لم يكن ممكناً أن يراهن أحد على «العراقيين الجدد» كي يغلّبوا الحكمة على مصالحهم المباشرة، فالانتخابات هي فرصتهم لفرض وجودهم، وما كانوا ليكسبوا مثل هذا الاعتراف في انتخابات «طبيعية».
هذه هي الاستنتاجات الأولية لمسار انتخابي امتزجت فيه نكهة خجولة لـ«عرس ديموقراطي» بدماء مئات الضحايا الذين سقطوا طوال الشهور الماضية، وصولاً الى يوم الاقتراع، أمس، ما أكسبه شيئاً من الخصوصية. فعلت دينامية الانتخابات فعلها وفرضت لعبة أخرى غير لعبة الموت، وبدا العراقيون متعطشين اليها فسمحوا لها بأن تكون، مهما بلغ الثمن.
ستبقى هذه الانتخابات في الذاكرة على انها الانتخابات الأولى في التاريخ التي كانت أكثرية المرشحين فيها مكتومة الأسماء. وكما أي انتخابات «أولى» في حياة شعب فانها فرصة تاريخية لوعي الهويات وإبرازها وتأكيدها والبحث عن مكان ودور لها في شؤون البلد. لكن الانتخابات هي قرار توافقي بالاحتكام الى الشعب، وقرار مسبق بالقبول بأي حكم يصدره الشعب. ذلك التوافق لم يتوافر في العراق، وهذا القبول سيظل تحت الاختبار.
هذه انتخابات يراهن عليها جورج بوش وتوني بلير للدفاع مرة أخرى، للمرة المليون، عن حربهما البشعة، عن انتهازية تلك الحرب ولاأخلاقيتها، كما يراهنان عليها ليتمكنا من تجريب الأكاذيب مجدداً في سبيل حرب أخرى. هذه انتخابات يريدها بوش ذريعة لسحب جزء من قواته ليهدئ من استياء شعبه، لكن الوضع البائس الذي اشاعه الاحتلال في العراق هو نفسه الذي يفرض بقاء قواته مدة أطول. هذه الانتخابات بداية وليست نهاية. العراقيون المتحمسون للانتخابات هم أول القائلين بأن الاقتراع لا يحمل لهم أي حل، انه مجرد خطوة نحو تصحيح الأوضاع.
الأهم ان لا تكون هذه الانتخابات «الأخيرة» في حياة العراق والعراقيين. فإذا لم تفلح في تغيير انطباعهم عن أنفسهم وعن وطنهم، إذا لم تشكل انتقالاً الى حالة التحام وطني، إذا لم تردع الانتهازيين وتجتذبهم الى وعي مسؤولياتهم، فإنها ستكون «الأخيرة» بكل تأكيد. والدليل ان الفئات كافة لا تني تبحث عن امكانات الانكفاء والانعزال أكثر مما تعطي اشارات الى تصميمها على جعل هذا العراق وطناً للجميع.
فلتكن الفيديرالية، لكن الفيديرالية خيار، ويجب أن تكون خياراً وطنياً، أي يجب أن يكون توافقياً، وبالتأكيد يجب أن لا تكون قناعاً أو اسماً تنكرياً لخيارات انفصالية. الفيديرالية خيار طبيعي عندما تكون هناك دولة محترمة من جانب مكوناتها كافة. الفيديرالية لا تنجح إذا كانت مشروع اضعاف للدولة أو تهميش لها أو نهب لقدراتها وتقاسم «على طريقة المافيا» لمواردها. والفيديرالية، أخيراً، لا تنفع حلاً إذا كانت تستخدم للتكاذب والتكايد. فالحاصل الآن أن البعض يبدي ارتياحاً لـ«الفيديرالية» لمجرد أنها تعفيه من طرح التقسيم البغيض الاسم والسمعة، أما البعض الآخر فلم تمنعه «وطنيته» من طرح خيار «الاقاليم» كرد أولي على مقاطعة السنة للانتخابات.
بعد الأخطاء المميتة التي ارتكبها الاحتلال، من الغاء الدولة والجيش والأمن، ولو استطاع لكان ألغى الشعب، قد تكون المرحلة المقبلة مرحلة الأخطاء المميتة على أيدي العراقيين أنفسهم. كان مفهوماً أن لا تبدي سلطة الاحتلال الاهتمام اللازم بمسألة مقاطعة السنة، أما العراقيون الآخرون فليسوا معذورين في عدم الاهتمام بها. طبعاً هناك مشكلة نشأت مع الاحتلال ومع سقوط النظام السابق، لكنها مشكلة فئة عراقية ويفترض ان العراقيين جميعاً معنيون بها. ولا يكون الحل بالتهرب من الواقع بل بمواجهته، بل لا يكون خصوصاً بإهمال تلك الفئة والاستفادة من محنتها الراهنة. فهذه الانتخابات كانت لتكون استحقاقاً أفضل لو قدر لها أن تجرى في مناخ مصالحة وطنية على أساس عقد اجتماعي جديد. ولم تكن المقاطعة السنية مستحيلة المعالجة، ومن المؤكد أن تأجيل معالجتها ساهم بقوة في مفاقمتها.
المقاطعون دائماً على حق، لكنهم دائماً الخاسرون. انهم على حق لأنهم شهود على أن العملية الانتخابية ليست سليمة، خصوصاً إذا لم تكن المقاطعة موقفهم التلقائي حيالها، يتساوى في ذلك ان يكونوا من السنة أو من أي مذهب آخر. بدءاً من اليوم تقع على الآخرين، الذين شاركوا وفازوا ويريدون ان يستثمروا هذا الفوز، مسؤولية استعادة المقاطعين لا العمل على الامعان في ابعادهم واستبعادهم، فهذا الوطن لن يستقيم إلا بجميع ابنائه. ويجب ألا ينسى أحد أن وجود الجميع، وليس البعض، هو ما صنع من العراق بلداً مهماً ومؤثراً، أما تفتيته شظايا تحقيقاً لأماني اسرائيلية تعيسة فلن يجعل منه سوى كم تافه ومهمل.