معه حق الزميل الدكتور كلوفيس مقصود حين يقول، في افتتاحيته امس، اننا "نواجه اليوم مأزقاً فكرياً وسياسياً وعاطفياً في تعاملنا مع المشهد الانتخابي في العراق". وصحيح، بل الأصح ان "سرعان ما يبدو الموقف الواضح القاطع منها مستحيلاً".
... إلا بالمقارنة، والمقارنة العربية بالذات. فمع التسليم اللا بدّ منه بأن انتخابات العراق أبعد ما يمكن ان تكون عن الانتخابات المثالية في حريتها و"قوميتها"، الا انها تظل أفضل من نصف قرن عراقي كامل من دون انتخابات، ولو "مرهَبة" (من ارهاب) وفي ظل استعمار... داخلي، او ما كان بمثابته من مشتقات الاستبداد!!!
ثم انها لا تختلف كثيراً، في الجوهر، عن بقية الانتخابات العربية، حيث تجري، وخصوصاً تلك التي تنتهي، كما في "دولة المؤسسات" السورية السعيدة الذكر، و"السعيدة ببعثها"(؟!؟) حيث الحزب الحاكم يحتفظ لنفسه سلفاً بأكثريةٍ من المقاعد تتقرر على صعيد الحكم الارفع، ثم يعمد الحزب الحاكم الى "ترشيح" نوابه لهذه المقاعد، تاركاً للشعب انتخابهم بحرية، انما من دون منافس وبالتالي من دون اختيار ، باكثريات نادراً ما تنزل عن التسعين في المئة.

ومع احترامنا الكلي لرغبة الرئيس البشار في القيام بتغيير "ربيعي" قيل ان طليعته (المتأخرة) ستكون تعددية حزبية نسارع ونرجوه ان يتذكّر ان الروسيا التي زارها وفرحت به كما فرح هو بزيارتها، لم تعد الاتحاد السوفياتي الستاليني الذي كان حليف "سوريا حافظ الأسد".... بل هي "الاتحاد الروسي" الذي نشأ من ثورة مضادة، وبقرار من مجلس نواب كان قد فقد الحزب الحاكم (اي ما هو بمثابة "البعث" السوري، والعراقي من قبل) سيطرته عليه امام زحف شعبي تقدّمه بوريس يلتسين ممتطياً دبابة كانت آتية لقمع الشعب، فحوّل يلتسين اتجاهها... وباقي القصة معروف... ومعروفة اسباب التردد الروسي، وبعضها معضلة الارهاب الشيشاني.
واذا استزادنا مستزيد وصفَ "دولة المؤسسات" التي تحدث عنها الرئيس الأسد الابن، هازئاً مستهزئاً بلبنان ورغبته او قدرته على "بناء دولة مؤسسات"...
اذا استزادنا مستزيد، اضطررنا، مرة ثانية وربما ثالثة الى ان نذكّره بأن مجلس الشعب السوري (ذي "الديمقراطية الشعبية" ) هو الوحيد الذي الغى الحصانة النيابية ليسمح باعتقال نواب، سيق أحدهم مباشرة من المجلس الى السجن لأنه كان قد احضر معه اكياس قمح او طحين فاسد ليبرهن حسياً عن التقصير المجرم في نظام الاعاشة او ما هو بمثابته... فبدل اسقاط الوزير المسؤول "ديمقراطياً"، ظل الوزير وزيراً ينتظر تعديلاً وزارياً صورياً (من فوق، ولا "تغيير ربيعي" بعد) وظل النائب في سجن "السجن العربي الكبير" الى ان قامت ضجة عالمية اضطرت بعدها الدولة "البعثية" الى بعثه من السجن... والقمح لم يتغيّر، ولا الاقتصاد...
لم يتغيّر "الاقتصاد البعثي الاشتراكي" بشهادة نائب آخر مسجون، ولا يزال من سنتين، وقد تجرأ وصرح من داخل السجن انه اعتقل لأنه "فضح احتكار" الهاتف الآلي، وهو الآن مستمرٌ سجنه (هكذا قال) خشية ان يفضح بقية الاحتكارات التي يقبض على زمامها "اصحاب الثروات الطائلة" من أهل الحكم.
أوَنزيد؟... لا، لن نزيد.
فقط امر واحد: ان المؤسسات البالية في لبنان ("البالية" بفضل وضع اليد المخابراتي السوري اللبناني الذي فضحه الزعيم وليد جنبلاط، ويلح ويكرر...) - المؤسسات البالية التي يعيّرنا بها الرئيس البشار يجري الآن تدريبها وتجهيزها - على يد الوصاية السورية المعروفة - بالعدة القانونية والفجور الغلماني الذي يمكّنها من إحكام اسوار "السجن العربي الكبير" على البقية الباقية من لبنان الحرية.
وحتى الآن، لم يُسجن بعد ولا نائب واحد.... فقط حاولوا اغتيال احب النواب الى قلب الديمقراطية اللبنانية. ومع ذلك لم يخط تحقيق العدالة العضّومية الباسطة هيمنتها على ملفات "المدينة" المتعددة... و المؤسَّسة سورياً - لم يخطُ التحقيق ولا خطوة جدية على طريق اكتشاف المجرمين حتى صارت الناس تتساءل عما اذا كان مروان حماده يجب ان يكون سعيداً لأن العدالة اياها لم تلاحقه هو بعد بتهمة انقاذ نفسه من الاغتيال، ثم الحضور، قبل النقاهة، الى مجلس النواب ليقول انه يكون فخوراً لو كانت محاولة اغتياله وما اصابه من جرائها فداء لتمتع لبنان بالربيع الذي يحلم به.
والسرّ في ذلك كله ان الديمقراطية اللبنانية التي كان من ابلغ تعابيرها كلام مروان حماده، ومن قبله، ثم بعد ذلك، كلام وليد جنبلاط هذه الديمقراطية تحرسها البقية الباقية من ارث الحرية الذي كان مشتركاً بين لبنان وسوريا (والعبرة في المشانق العثمانية التي لم تميّز بين الشهداء) الى ان... الى ان ادخل حلفاء الستالينية لبنان، وبتفويض اميركي كذلك، كما قال الوليد برؤية نادرة الشجاعة الى جانب الشعب السوري في "السجن العربي الكبير"!!!
وفي المناسبة، لا بد من التذكير بأن الوليد فضح كذلك كيف صارت الدول العربية، كلها او بعضها، لا أسيرة السجن العربي الكبير فحسب، بل اسيرة "لعبة الأمم"، تظن انه في وسعها ان تلعب دولة عظمى ضد الأخرى، فإذا بهذه "تتفق" علينا وتحوّلنا ادوات في حروبها، فنصير كلنا نخوض، كما في لبنان خصوصاً، ومرات، حروباً اهلية "من أجل الآخرين"...
... وآخر تلك النماذج، ولعله أبرزها، واحد يعود موضوعه اليوم بالذات الى الواجهة، وهو "التفويض" الاميركي للبنان كي يستدعي الجيش السوري لضرب القصر الجمهوري حيث كان يعتصم الجنرال عون، والاستحصال من اسرائيل على الأمان الجوي للطيران السوري حتى يحلّق في السماء اللبنانية ويقصف بعبدا وسواها من المواقع.
... كل ذلك لأن سوريا كانت قد وافقت على الاشتراك العسكري الرمزي الى جانب اميركا في الحرب الاولى على عراق صدام ("البعثي"، تذكّروا...)
واليوم، حين تؤكد واشنطن ان لا "مبادلة خدمات" على حساب لبنان والانسحاب منه... اليوم لا يسعنا الا ان نهنئ سوريا بأنها فتحت اقلام اقتراع على ارضها حتى يصوّت العراقيون اللاجئون اليها بحرية وأمان. وأملنا أن تصير هذه العملية نموذجاً لا لمزيد من الانتخابات العربية، بل للانتخابات السورية المقبلة، وبالاحرى الانتخابات اللبنانية، فلا يطوّقها ويزوّرها القانون الذي هو قيد التصنيع في مجالس الحكم المسترهنة للشقيقة سوريا، بحجة عجزنا نحن او تلكؤنا عن بناء "دولة مؤسسات".
أفكثير علينا، نحن اللبنانيين ان نصرخ كما بعضنا مرات من قبل: "ارفعوا ايديكم عن لبنان... وطننا ليس للبيع ولا للايجار"!؟
ثلاث ملاحظات قبل ختام هذا المقال:
اولاً: ترحيبنا الكلي بقرار الجنرال عون العودة الى لبنان، وترحيبنا اذا صحّت الاخبار بأن تكون الدولة اللبنانية العليّة (ولا بد ان تكون، اذا صحّ الخبر، قد استأذنت سلطانها!!!) قد قررت رفع الموانع القضائية التي كانت تحول دون عودة الجنرال. وأملنا، أياً تكن حسابات السلطة والمتسلطين عليها، ألا تظن هذه او تلك انها هكذا ستساهم في قلب المعادلات الانتخابية والتأثير على المواقف السياسية المبدئية. فالجنرال عون ملتزم مواقف ثوابت لا قدرة للسلطة على "هضمها" او التحالف معه على اساسها!!
ثانياً: ترحيبنا بانتصار "حماس" في الانتخابات البلدية في فلسطين غزة، وفي ذلك تأكيد ان حتى الاحتلال الاسرائيلي لا يمكن ان يفسد ديمقراطية، ولو بلدية الاطار، حين تأتي من ضمن تعاقد شعبي على اعادة بناء وطن... واللبنانيون (كما الاتراك من قبل) سيتعظون...
ثالثاً: حين نتطلع الى تاريخ ما ترتَّب على انتخابات اريد بها بناء مجتمعات ديمقراطية (كما يقال ان ذلك هو حال العراق) لا يسعنا الا التعلّم مما صارت اليه الهند، اكبر ديمقراطية برلمانية في العالم المعاصر (مليار انسان واكثر) ومتعددة الدين والعرق، بما في ذلك عدد من المسلمين يفوق مجموع سكان باكستان الاسلامية.
وقد بدأت مسيرتها الديمقراطية في ظل آخر أكبر امبراطوريات القرن العشرين، هي بريطانيا العظمى. وصارت الهند، الى ديمقراطيتها، وربما بسببها، احدى كبرى دول الصناعات الالكترونية، تضاهي اميركا واعظم من بريطانيا سيدتها السابقة. فضلاً عن كونها دولة نووية ومصنِّعة للصواريخ.
وما يصح عن الهند يصح مثله عن اليابان: فرضت عليها اميركا عقيب احتلالها بعد الحرب الديمقراطية والانتخابات، فاستلهمت اليابان من تراثها القديم ما اخرجها من وضع المهزومة في الحرب العالمية لتصير تنافس المنتصرين عليها.
واخيراً اخيراً، كم نتمنى لو ان الرئيس العزيز لشقيقتنا العزيزة سوريا يكلف نفسه، ما دام صار يهوى السفر، عناء القيام برحلة الى الزمن الماضي، فيقارن بين حال المانيا الغربية التي صارت ديمقراطية، (ديمقراطية حقة، وليس "ديمقراطية شعبية") وديمقراطية المانيا الشرقية "المُتسفْيتة" (كما سوريا!)... اذذاك كان يدرك لماذا سقط جدار برلين "السجن الاوروبي الكبير"، ولماذا ابتهج الالمان بوحدتهم، بمن فيهم المان الغرب الذين دفعوا ويدفعون كلفة تنمية "المجتمع الشرقي" حتى يصير الشعب الواحد في الدولتين واحداً حقاً بنظامه وبرقيّه، وفي طليعة الاحرار.
رسالة أخيرة الى الخائفين على لبنان ومؤسساته:
لبنان الشعب اقوى من المؤسسات، وللمؤسسات منه أي من الشعب العنيد العريق ضمان نهضتها وتحرّرها... وضمان سلامة الجنرال عون كذلك، حين يعود، كما اعلن هو نفسه !
فليطمئن المتخوّفون علينا، والخائفون من بيننا ! مفهوم؟...