قامت قيامة الدولة العبرية -ومازالت- بسبب معلومات عن عزم روسيا بيع سوريا صواريخ ايغلا «IGLA»، واسكندر «ISKANDAR». ففي مطلع يناير الجاري عقد شارون اجتماع حرب -نعم اجتماع حرب- ضم من الجنرالات رئيس الأركان موشيه يعالون، وغيورا ايلاند مستشار الأمن القومي، وقائد القوات الجوية فضلا عن وزير الخارجية سيلفان شالوم وسفير إسرائيل لدى موسكو أركادي هيلمان، كان هدف اللقاء إحباط هذه الصفقة الخطيرة.
وعلى محورين تحركت تل أبيب، فأرسل وزير خارجيتها وفدا رفيع المستوى إلى موسكو، فيما اختار شارون توقيتا خاصا، فهاتف بوتين عشية وصول الرئيس السوري بشار الأسد في أول زيارة رسمية له منذ توليه الحكم، وطالب شارون- حسب صحيفة هآارتس العبرية- بوقف الصفقة لأنها تمثل إخلالاً رهيباً «!!» في ميزان القوى بالشرق الأوسط «نص ما قاله المحلل العسكري الإسرائيلي عامير أورون».
لكن هل اكتفت إسرائيل بسفر وفد إلى موسكو واتصال هاتفي من شارون أخبره بالحكاية الكاذبة وهي اختلال موازين القوى، لقد تحركت جميع وسائل الإعلام الموالية لإسرائيل تكرس كذبة الاختلال، وتدعو موسكو لعدم اللعب بنيران الاستقرار، ومن الولايات المتحدة كان لصحيفة «نيويورك تايمز» السبق في التهويل والتحذير، إلى «الجارديان» البريطانية، مروراً بالصحف الاسترالية والإسبانية والألمانية، ومن سخريات القدر أن صحيفة عربية يومية انضمت إلى جوقة الكذابين فاستعانت بخبير عسكري لم تتعد رتبته ملازما ليحلل خطورة صواريخ «اسكندر».

هذا جانب من المشهد المشتعل منذ مطلع الجاري والمستمر حتى اللحظة، لكن فلنقرأ في الحقائق والتبعات والمستقبل، في البداية لا يتعجب المرء من الفزعة الإسرائيلية حيال أي صفقة تسليح تحصل عليها دولة عربية، فهذا شأن إسرائيلي معروف لتظل وحدها تملك وسائل الردع، وتحرم الطرف المقابل من امتلاك الرادع المضاد، وامتلاك دولة لرادع وغيابه من دولة أخرى يعني أن الأولى تفعل ما تريد، فتقتحم مقاتلاتها الأجواء دون أن يعترضها أحد، وتدخل قطعها القتالية البحرية المياه الإقليمية دون أن يطلق عليها صاروخ بحر-بحر، أو طوربيد، وتحتل أرضا فتقيم عليها مستعمرات وتبنى فوقها مدارس وتشق طرقا وقد تقيم منتجعات سياحية للعراة دون تأفف أو حتى كلمة عتاب لأن الرادع المضاد غائب أو بالأحرى مُغيب.
بعض الجهلة من كتابنا العرب الذين ملأوا بطونهم بالشعارات، وأصيبوا بتخمة الانكسار، بعدما أدمنوا الانبطاح، يهمسون أو يعلنون، إسرائيل تملك مثلما نملك، نحن لدينا في منطقتنا العربية مقاتلات وقاذفات ودبابات قتال رئيسية وصواريخ باليستية أرض-أرض، وغواصات، وتل أبيب تملك الترسانة نفسها فأين الخلل؟.. سؤال خبيث لا يدركه إلا القابضون على جمر الاختلال، وسأذكر مثالا بسيطا للغاية، هل يدرك القارئ أن أداء مقاتلة «F-16 Falcon» لدى إسرائيل غير أدائها لدى دولة عربية؟ والسبب ببساطة أن الكونجرس الأمريكي حين يقر صفقة F-16 لإسرائيل يقرها كاملة بجميع التقنيات شأنها شأن المقاتلة نفسها لدى القوات الأمريكية، أما حين تكون الصفقة لدولة عربية فحدث ولا حرج عن الممنوعات.
والحال المزري ينسحب على قطع قتالية أخرى هذا الحديث لا مجال فيه للحديث عنها.
إسرائيل إذن تتفوق عسكريا ليس بعدد المقاتلات ولا الدبابات أو حتى قوتها البشرية العسكرية الفاعلة، فالتفوق العددي لنا وبأضعاف، لكنه كما يقول: المثَل «العدد في الليمون»، وإن كانت إسرائيل تتفوق فلم الفزعة إذن؟ قد يرى المرء منطقا إن كانت الصفقة تضم أسلحة حديثة، أو مقاتلات هجوم استراتيجي أو قاذفات متخفية تتمتع بخاصية «STEALTH» ولكن أن تشمل الصفقة صاروخا مضادا للطائرات، خصوصا الحوامات -لا الطائرات القتالية- فإن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر في تحليله وقراءته، فقد طلبت سوريا صواريخ ايغلا «IGLA» أو كما يسميها الناتو «SA-16 Gimlet» وما نعرفه في المنطقة العربية باسم «سام»، وهذه الصواريخ تطلق من على الكتف، ومداها لايتجاوز 5 كيلومترات، وإن طالت فإنها ستطول حوامة إسرائيلية تخترق الأجواء السورية أو اللبنانية، فهل بحيازة سوريا لمثل هذه الصواريخ المماثلة لصواريخ ستينغر الأمريكية فإنها تكون أخلت بميزان القوى في الشرق الأوسط، وتكون قنبلة موقوتة ستفجر نعيم السلام الحالي في المنطقة؟
صواريخ ستينغر الأمريكية «Fim-92a» التي زودت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية أسامة بن لادن وتنظيم طالبان كانت تباع على أرصفة الشوارع في المناطق القبلية بباكستان بعد طرد الاتحاد السوفييتي، وسوريا لم تطلب صاروخا عابرا للقارات، أو مفاعلا نوويا بل صاروخا يطلق من على الكتف، وكل ما في الأمر، أن روسيا أدخلت تحسينات عديدة على «SA-16» ثم «SA-18» وأنتجت «ايغلا» الذي يلاحق الحوامة ويتتبع عادمها، وقد ثبت أن ايغلا بجميع طرزه يتفوق على ستينغر وأكثر دقة منه.
ورغم ذلك ما الباعث على هذه الفزعة الإسرائيلية، حالما حدود الدولة العبرية آمنة، وطالما أن بشار الأسد لم يقل يوما إنه يعتزم حرق نصف إسرائيل بالكيماوي، الحقيقة هي أن إسرائيل أضعف مما نتصور، كيان بلا أي بُعد استراتيجي، سكانه من الشتات، لا تجمعهم لغة، ولا توحدهم عادات وتقاليد، نعم الكيان الإسرائيلي أضعف مما نتصور، ولا يصل إلى الحد الذي نبالغ فيه في خطابنا الإعلامي المهزوم أو المنبطح أو الذي شبع انكسارا.
كلنا يدرك أن إسرائيل تملك الرادع النووي «نحو 200 رأس نووية» وتملك أيضا وسائل إيصاله أي الصواريخ الباليستية، لكنها لا تستطيع استخدام هذا الرادع، واسألوا وزير الدفاع المصري الأسبق المشير محمد عبدالحليم أبو غزالة الذي فضح أسباب عدم مقدرة إسرائيل استخدام رادعها النووي، حيث أكد أن اتجاه الرياح وموقع إسرائيل سيجعلانها أول المتضررين من الغبار النووي.
إسرائيل التي تعقد مجلسا للحرب بسبب صاروخ يطلق من على الكتف هي أضعف مما نتصور، تعيش رعبا غريبا في كتبها الدينية غير المحرفة والمزورة وهو رعب الزوال.
وحتى في حالة الصاروخ الباليستي «اسكندر» فما الجديد الذي سيضاف لترسانة سوريا العسكرية، التي تشير التقارير إلى أنها تملك ترسانة «محترمة» من صواريخ أرض-أرض من طراز «سكاد» «SCUD» ويقال إنها تملك «SS-I -SCUD-B» الذي طوره صدام فأنجب منه «الحسين» و«العباس» و«تموز»، بمدى يصل إلى نحو 300 كلم، وكذا «SS-I -SCUD-C» بمدى 500 كلم، فماذا سيضيف الصاروخ الروسي «اسكندر» الذي يعرفه الناتو بـ «SS-26» وهو بمدى لا يتجاوز 280 كلم، وكل ما في الأمر أن معدل دائرة الخطأ في صاروخ «SS-26» أقل بكثير من سكاد بطرازيه «B وC» وبمعنى آخر خشيت إسرائيل أن تمتلك سوريا هذا الصاروخ فتوجه ضربة إلى مفاعل ديمونة في صحراء النقب إن أقدمت تل أبيب على مغامرة أخرى حين قامت مقاتلاتها العام الماضي بضرب موقع فلسطيني في قلب دمشق، ثم عادت مقاتلاتها إلى قواعدها سالمة.
في يوم ما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الرئيس بشار الأسد غضب غضبا شديدا لتحليق طائرات إسرائيلية فوق أحد قصوره وكان بداخله، ومذاك قرر تعزيز وسائل دفاعه الجوي «انظر-صحيفة النهار اللبنانية- 13 يناير 2005»، والسؤال هنا أليس من حق سوريا تعزيز دفاعها الجوي لوقف العربدة الإسرائيلية، أليس من حقها أن تملك رادعا لترد على إسرائيل بعربدة أو قل بالأحرى بضربة مماثلة، أليس من حق بشار الدفاع عن أرضه ووطنه وسيادته أم هو حلال لإسرائيل ومحرم على غيرها.
وهذا لعمري هو جل الاختلال في القياس والموازين والعدالة والسلام، اختلال يقوي شوكة المعتدي الذي يخرج لسانه للبشرية جمعاء، ويضعف من يمد يده للسلام لا يطلب أكثر من تحرير ترابه المحتل.
لقد فضحت أحاديث صفقة «ايغلا» و«اسكندر» ماهية الضعف الإسرائيلي، وفضحت فرقتنا فلم تكتب مطبوعة عربية واحدة حق سوريا في تعزيز دفاعاتها، وفضحت عجزنا كعرب ليكون لنا خطابا إعلاميا- ولو شبه موحد- حول أمور مصيرية.
«ايغلا» و«اسكندر» لن يضيفا كثيرا لترسانة سورية بناها الروس وعملوا على تطويرها طيلة السنوات الماضية، ولكن أثبتا لبوتين تحديدا أن إسرائيل تكذب حين تتحدث عن اختلال موازين القوى، وأن من حق روسيا التي زودت جيوش نصف الكرة الأرضية بالأسلحة أن ترفع حجم مبيعاتها بدلا من بقائها في ذيل القائمة، وان من حق أي بلد أن يعزز دفاعاته وأن يملك رادعا حالما جغرافيته تقع في دائرة عدوان وتعدٍ وعربدة.
ما سبق كان بعضاً من دروس «ايغلا» و«اسكندر»، لأن هناك دروسا أكثر أهمها الإجابة عن سؤال نصه: «متى تتوازن القوى في الشرق الأوسط الملتهب»؟!