ظهرت الحركة الأصولية اليهودية في طورها الحديث في اواسط القرن العشرين، كرد فعل لحدثين منفصلين: الأول هو خيبة امل اليهود في الحداثة الاوروبية التى جلبت عليهم الاضطهاد في المانيا النازية، فأيقنوا ان الخلاص انما يتحقق في النزوح الى الارض المقدسة للعكوف على التعبد، واحياء تعاليم التوراة. والانعزال عن المجتمعات العلمانية، والخروج على فكرة «الدولة» التى تجسد في نظرهم تعاليم الشيطان. ولكنهم عندما وصلوا الى فلسطين وجدوا انفسهم وجها لوجه امام الصهاينة الذين كانوا متورطين حينذاك في انشاء دولة علمانية. وكان هذا الصراع بين التيارين هو العامل الثانى الذى أدى الى ترسيخ الاصولية المتمثلة في الاحزاب الدينية.
وهذا التيار الاصولى النازح من اوروبا يحمل اسم «اليهودية الأرثوذكسية» وهو اسم له مدلولاته التى تميزه عن التيارات والجماعات والاحزاب التى يتكون منها المجتمع الاسرائيلي.
واليهودية الارثوذكسية: من اهم المذاهب اليهودية في العصر الحديث. وتعمد رد فعل رجعى لتيارات الاستنارة والاصلاح بين اليهود، وينطلق اليهود الارثوذكس من الايمان المطلق بكل المقولات اليهودية التقليدية والاساطير القديمة بكل سذاجتها ومجافاتها لحقائق التاريخ والواقع، ويعتقدون اعتقادا حرفيا في صحة الاساطير مثل الايمان بالعودة الشخصية «للماشيح»، وبالعودة الى فلسطين، وبان اليهود الشعب المختار الذي يجب ان يعيش بمعزل عن الناس لتحقيق رسالته، ولا يسمحون باختلاط الجنسين، ويعارضون اى نشاطات تبشيرية لليهود، وتسيطر اليهودية الارثوذكسية على الحياة الدينية في اسرائيل، وعلى دار الحاخامية، ووزارة الشؤون الدينية، والاحزاب الدينية، التى يستعين بها الحزب الحاكم في الائتلافات الوزارية في نظير تقديم تنازلات لهم من اهمها عدم الاعتراف بالزيجات المختلطة، او بعقود الزواج التى تتم دون اشراف الحاخامات الارثوذكس «موسوعة المفاهيم الصهيونية للدكتور عبدالوهاب المسيري».

*يعارضون الصهيونية بعنف
تقول الباحثة الانجليزية كارين ارمسترونج: كانت جماعة «ايداح حاريديم»، وهى مجموعة يهود ارثوذكس متطرفين، يوجدون في القدس ويعارضون الصهيونية بعنف حتى قبل وعد بلفور بزمان طويل، ولأنهم كانوا مستغرقين في نصوصهم المقدسة، فلم تكن لديهم ادنى فكرة عن كيفية تنظيم انفسهم سياسيا، بيد انه سرعان ما لحق بهم اعضاء من حزب (اجودات-اتحاد اسرائيل) الذين كانوا قد تعلموا قواعد اللعبة السياسية الحديثة، وكان اتحاد اسرائيل مازال معارضا للصهيونية- الا ان الاعضاء حاولوا ان يوازنوا اثر العلمانيين، بانشاء مستوطناتهم الدينية، فكان الشباب يدرسون العلوم الحديثة، الى جانب التوراة،والتلمود، وقد قوبل هذا التنازل بالامتعاض الشديد من جانب الارثوذكس المتطرفين المتشددين، وتولد عن هذا الصراع الداخلى بين الارثوذكس حركة اصولية، وشن زعيم هذه الجماعة - الحاخام حاييم اليعازر شابيرا 1937 - 1872حملة عنيفة ضد حزب اتحاد اسرائيل لانهم يتعاملون مع الصهاينة، ويشوهون تفكير اطفال المدارس الابرياء "باعشاب تنوير الاغيار السامة، وبأغاني تتحدث عن استيطان الارض، وعن حقول وكروم ارض اسرائيل تماما مثل الشعراء الصهاينة. وكانوا بهذا يدنسون الارض المقدسة المخصصة - فقط - للصلاة المقدسة، وهم يحرثون تربتها ذات القدسية.
وجاء من بعده الحاخام الشاب موشيه تايتلبوم 1979-1888 فادان الكبيوتزات الصهيونية، وانتابه نفس الغضب والرعب الذى انتاب الناس حينما سمعوا عن معسكرات الهلاك النازية، والقى بمسؤولية هذه المعسكرات كاملة على خطيئة الصهيونية التى اغوت اغلبية اليهود بالهرطقة الفظيعة التى لم يسمع مثيلاً لها منذ خلق وليس من المستغرب ان يصب الرب عليهم غضبه، ولم ير هؤلاء الغاضبون الرافضون أي شيء ايجابى في انجازات الصهيونية الزراعية، او في مهارة قادتهم السياسية، وهم يحاولون انقاذ حياة اليهود، بل رأوا هذا "مستثيرا للغضب" و"انتهاكا" و"الانفجار النهائى لقوى الشر". وكان الصهاينة - حتى لو كانوا من المتمسكين بالتقاليد والتعاليم الدينية "ملحدين وكفره" وستظل مغامراتهم شرا لانها عصيان للرب الذى امر ان يتحمل اليهود عقاب المنفى، والا يتخذوا آية مبادرة لإنقاذ أنفسهم.

*تجسيد لقوى الشيطان
وكانت الأرض في نظر شابيرا اقدس من ان يستوطنها اليهود العاديون، وليس فقط المتمردون الصهاينة الذين لا يخفون تمردهم، فلا يجب ان يعيش فيها سوى اليهود الغيورون المتدينيون الذين يكرسون حياتهم كلها للدراسة والصلوات، وحينما يوجد شيء مقدس مثل "أرض إسرائيل" تحتشد قوى الشر لمهاجمته، وبين شابيرا ان الصهاينة كانوا مجرد التجسيد الخارجى للقوى الشيطانية، ومن ثم تعج الارض المقدسة نفسها بالقوى الشريرة التى تستثير غضب وحنق الرب، فبدلا من الإله، يقطن الشيطان اورشليم الآن، ومعه الصهاينة "الذين يتظاهرون انهم (يصعدون) الى الارض، بينما هم في الواقع يهبطون الى اعماق الجحيم". فقد نبذ الرب الارض المقدسة واصبحت جحيما، كما ان "ارض اسرائيل" ليست وطنا كما يزعم الصهاينة، بل هى ارض المعركة، والاشخاص الوحيدون الذين يمكنهم سكناها في هذه الايام، ليسوا مالكى المنازل والفلاحين، بل "المحاربين المقدسين الذين يحركهم حماسهم من خشية الرب"، فهم رجال شجعان خرجوا "للقتال في الحرب العادلة في سبيل ما بقى من ارث الرب في جبل اورشليم".
أما المغامرة الصهيونية فقد ملأت قلوب الاصوليين الارثوذكس بالرعب، لانها التجسيد الاكبر للشر الذى اتى دوما بالنوازل على الشعب اليهودى متمثلا في برج بابل، وعبادة العجل الذهبى، وثورة "ياركوشبا" في القرن الثانى الميلادى وهو شاب يهودى ادعى انه "الماشيح"، وبركوشبا كلمة آرامية معناها "ابن الكوكب". وقد التفت حوله جماعات من اليهود ودخلوا في حرب مع الرومان، وانتصروا عليهم في اوائل الامر، ولكن لما ارسلت روما الامدادات العسكرية انهزمت قوات المتمردين، ولقى بركوشبا وزملاؤه حتفهم، فانفض اليهود من حوله، واطلقوا عليه اسم "بركوزيبا" اى ابن الكذاب، وعلى اثر الهزيمة اصبحت اورشليم محرقة على اليهود وبركوشبا يجسد كثيرا من المثل العليا للصهيونية، فهو يهودى يرفض الاندماج، كما انه يدعى النبوة، ويريد فرض رؤيته على الواقع التاريخى، وهو فوق هذا يعيش بالسيف وليس بالكتاب، بل انه كان يسخر من القيم الدينية، فكان يقول في صلاته: "يا إلهي انا لا اريد مساعدتك، ولكن لا تفسد علينا الامر". ومن الغريب ان بركوشبا هذا الذى يمجده الصهاينة لم يكن يعرف العبرية على الاطلاق، وانما يتكلم الآرامية «موسوعة المسيري».
كانت الصهيونية في نظر الاصوليين الأرثوذكس هى الهرطقة الكاملة، ولا عجب ان سلط الرب عليهم هتلر. ودعوا انصارهم الى النهوض لمحاربة اليهود الآخرين باسم الرب. لانهم بتعاونهم مع الصهاينة قد اضروا باليهود اكثر من اشرار الارض جميعا، ومن ثم فالارتباط بهم خطيئة وتحالف مع الشيطان، وليست نشاطات الصهاينة القتالية هى التى ستحمى اليهود والتوراة، بل الورع الدقيق للتعاليم الدينية، ولا يجوز لهم التورط في السياسة والمعارك المسلحة التى تورد اليهود مورد الهلاك.