لا يغرنك الثلج الذي يغطي إيران هذه الأيام, فتحت ملاءته البيضاء ركام من التفاعلات التي تتراوح بين الصخب والسخونة والدفء والحيوية. وقد تستغرب إذا علمت أن الصخب والسخونة مصدرهما حالة الحيرة والبلبلة في الداخل, أما الدفء والحبور فراجعان إلي الحاصل خارج الحدود, خصوصا في العراق.
(1)
هذا الانطباع فاجأني شخصيا. إذ حين ذهبت إلي طهران كانت أخبار الاستعدادات الأمريكية للقيام بعمل عسكري ضد إيران قد احتلت مكانها في صدارة الصحف العالمية, خصوصا بعدما نشرت مجلة نيويوركر في1/16 الماضي تقرير محررها سيمون هيرش عن عمليات تجسس أمريكية استمرت طيلة الصيف الماضي, لمراقبة الأنشطة النووية في أكثر من30 موقعا, تحسبا وتمهيدا للعمليات العسكرية المحتملة. ليس ذلك فحسب, وإنما كان معي تقرير مجلة أتلانتيك الذي نشرته في وقت سابق, في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضي(2004) وعرضت فيه بتفصيل مثير سيناريو الغزو, كما نوقش في جلسة محاكاة لمجلس الأمن القومي الأمريكي. وحضره عدد من الجنرالات المخضرمين والمسئولين رفيعي المستوي كممثلين لمختلف الجهات المعنية بقرار الحرب.
كان تقرير هيرش في نيويوركر عن ترتيبات استطلاعية تمت. أما تقرير أتلانتيك فقد فصل فيما ينبغي أن يتم. فقد تحدث عن سيناريو يستهدف ضرب إيران علي ثلاث مراحل, في الأولي يتم قصف معسكرات الحرس الثوري, الذي قالت الاستخبارات انها تعرف مواقعهم, وتعتقد أن القضاء عليهم لن يستغرق سوي يوم واحد, المرحلة الثانية تحدثت عن ضرب المفاعلات النووية التي تشمل300 موقع منها125 موقعا ادعوا أن لها صلة بالأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية. أما المرحلة الثالثة, فتتمثل في إرسال قوات من منطقة الخليج والعراق وأذربيجان وجورجيا وأفغانستان, لتحويل أنظار الإيرانيين وتطويقهم, ثم الزحف نحو العاصمة طهران, التي قدروا أنه يستغرق أسبوعين. ولا تتضمن الخطة دخول طهران, غير أنها تتحدث عن تعيين حكومة صديقة علي غرار ماجري في أفغانستان والعراق.
حذر السيناريو من أن إيران إذا ما استشعرت الخطر, فإنها قد تستبق خطة غزوها بضرب القوات الأمريكية في الخليج, وفتح جبهة شيعية داخل العراق ضد القوات الأمريكية هناك. ومما يلفت الانتباه في وقائع الاجتماع أن مناقشة جرت حول قيام إسرائيل بضرب المفاعلات الإيرانية( في تكرار لما حدث مع العراق قبل20 عاما) ولكن مندوب وزارة الخارجية ذكر أن إسرائيل تضغط بشدة لتدمير المفاعلات الإيرانية, لكنها تفضل أن يقوم الأمريكيون بهذه المهمة. لكن أهم ما في الاجتماع ـ حسبما ذكرت أتلانتيك ـ أن المشاركين فيه انتهوا, بعد تقليب مختلف وجهات النظر, إلي توجيه توصية إلي الرئيس بوش بعدم غزو إيران في ظل الأوضاع الراهنة.
(2)
هذه المعلومات التي قد يكون لدي السلطات الإيرانية أكثر منها, وحدها كافية لإشاعة قدر كاف في التوتر والقلق في طهران وحين تحريت الأمر, وتحدثت مع بعض وثيقي الصلة بدوائر تلقي تلك الإشارات, قيل لي إن طهران استقبلت هذا الكلام باهتمام لكنها لا تستشعر إزاءه توترا أو قلقا. أدهشتني الإجابة فأوضحوا الأمر علي النحو التالي:
* ان طهران لا تستبعد محاولات التجسس والاستطلاع التي أشار إليها تقرير مجلة نيويوركر. وترجح أن تكون تلك المحاولات قد تمت من خلال وفود رجال الأعمال التي تتردد علي إيران, أو من خلال بعض الإيرانيين من عناصر منظمة مجاهدي خلق.
* ان طهران علي علم بأمرين: أولهما أن إسرائيل تلح منذ سنوات في ضرب المفاعلات النووية الإيرانية, متصورة أن إيران أصبحت التحدي الأكبر الذي يواجهها, بعد تدمير العراق وتكبيل النشاط النووي في باكستان. الأمر الثاني أن ثمة تيارا قويا بين المحافظين الجدد النافذين في الإدارة الأمريكية يؤيدون ذلك الاتجاه, ويرونه خطوة ضرورية لبسط الهيمنة الأمريكية في المنطقة فضلا عن أهميته لما يسمي بأمن إسرائيل.
* ان طهران مقتنعة بأن الحكومة الأمريكية لن تقدم علي عمل عسكري ضد إيران مادامت الأوضاع لم تستقر لها في العراق علي الأقل. وإلي أن يتحقق لها ذلك, فإن واشنطن ستواصل عمليات لي الذراع والترهيب والتخويف, فضلا عن الضغوط السياسية التي تستخدم ورقة الملف النووي وذلك هو الحاصل الآن.
* في كل الأحوال, فإن طهران مدركة أن الولايات المتحدة ستظل حريصة علي تسكين الوضع في إيران, مادامت لها قوات أو مصالح في العراق. وهو حرص متبادل, لأن القيادة الإيرانية حريصة بدورها علي طمأنة الأمريكيين الذين أصبحوا جيراننا في العراق ولو بشكل مؤقت, حيث لا مصلحة لأي من الطرفين في استفزاز الآخر, حتي ينجلي الأمر, ويحدد الشعب العراقي خياره النهائي.
(3)
هذه النقطة الأخيرة كانت خيطا حاولت من خلاله تتبع حقيقة الموقف الإيراني من الحاصل في العراق, خصوصا أن ثمة أجنحة في بغداد ما برحت تنتقد التدخل الإيراني, بالتصريح حينا والتلميح في أحيان كثيرة.
حين ناقشت أحد الباحثين الاستراتيجيين في الموضوع, قال إن من وجهة نظر المصلحة الإيرانية البحتة, أن النظام العراقي السابق كان يمثل ساترا أو حاجزا بين إيران وإسرائيل, التي اعتبرت بغداد وطهران خصمين لدودين وعدوين خطيرين, وان اختلفت الأسباب بالنسبة لكل منهما. لكن الموقف تغير بصورة جذرية بعد سقوط نظام صدام حسين, حيث انكشفت الجبهة الإيرانية, وأصبحت هدفا مباشرا لإسرائيل, التي تقف وراء كل الضجيج المثار حول الملف النووي, والادعاء بأن إيران ستمتلك قنبلة نووية خلال سنتين أو ثلاث, وهذا الموقف المستجد أفرز وضعا استراتيجيا مغايرا, كان من الضروري أن تتحسب له إيران.
سألت عن الحقيقة في التدخل الإيراني في العراق فقيل لي بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما يلي:
* ان ثمة واقعا تاريخيا ومذهبيا وسكانيا فرض تداخلا بين الشعبين لا يمكن تجاهله. ولسبب ذلك الواقع الناشئ عن الجوار الجغرافي, وظروف الحكم العثماني, وأخيرا ضغوط النظام البعثي السابق. فإن بعض العوائل لها أبناء يعيشون علي الجانبين ويتوزعون علي جنسيتي البلدين, كما أن هناك مسئولين إيرانيين ولدوا وعاشوا في العراق( منهم رئيس السلطة القضائية آية الله هاشمي شاهر وردي) ـ وهناك مسئولون عراقيون لهم أصولهم الإيرانية( آل الحكيم الذين أسسوا المجلس الأعلي للثورة الإسلامية بالعراق, ويمثلهم السيد عبدالعزيز الحكيم الآن, ينحدرون من أسرة جاءت إلي العراق من أصفهان).
* ان العراق يعد من الناحية الاستراتيجية أهم جار لإيران( الحدود بين البلدين بطول630 كيلومترا). وبالتالي فإن طهران لا يمكن أن تغمض أعينها عما يجري في داخله, خصوصا في وجود القوات الأمريكية, التي هي ليست صديقة بأي معيار, فضلا عن أن الكل يعلم أن واشنطن لا تضمر ولا تتمني خيرا لإيران. ولذلك فمن الطبيعي أن تتصرف طهران في ظل هذه الظروف بما يؤمن نظامها ويحمي مصالحها, وهو الموقف الذي تلتزم به كل دولة إزاء أي خطر محتمل يقف ببابها ووراء حدودها.
* ان إيران يسرها أن يأخذ شيعة العراق وضعهم الطبيعي في إدارة البلاد, لكن أكثر ما يهمها ألا تقوم في العراق حكومة معادية لها. ولن تطمئن ولن يستريح لها بال إلا إذا جاءت في بغداد حكومة صديقة. ولأجل ذلك فطهران حريصة علي أن تحتفظ, من خلال مؤسساتها وأجهزتها المختلفة, بخطوط مفتوحة مع كل الأطراف. مع الحكومة الحالية ومع السيستاني وجماعته, بل ومع مقتدي الصدر وتياره. في الوقت ذاته, فإن الإيرانيين حريصون علي مد جسورهم مع السنة والأكراد أيضا. وفي إطار اللعبة الإيرانية الذكية, فإن القيادة الإيرانية التقت في بعض النقاط مع السياسة الأمريكية ـ في موضوع إجراء الانتخابات مثلا ـ في حين ان الإعلام الإيراني وقناة العالم الممولة حكوميا, يؤيدون المقاومة العراقية. ويلفت النظر أن هذا هو الموقف الذي يلتزم به المرشد ـ السيد خامنئي ـ والشيخ هاشمي رفسنجاني, اللذان ينددان بالاحتلال الأمريكي في كل مناسبة. وهو ما لم تفعله وزارة الخارجية ورموز الدبلوماسية الإيرانية الرسمية.
(4)
في جلسة مصارحة, مع بعض القريبين من المطبخ السياسي الإيراني, علمت أنه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق, شكل الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص المصلحة فريقا لإدارة الأزمة العراقية, ومتابعة خيوط المشهد وراء الحدود. وقال أكثر من واحد إن طهران هي أكثر الرابحين من الحاصل في العراق, وان حاولت ان تخفي سعادتها وارتياحها لما يجري هناك. وحين قلت إن إيران أصبحت الآن محاصرة ومهددة من جانب الأمريكيين, علق أحد الجالسين قائلا: إن الملاحظة أبديت أمام الشيخ رفسنجاني ذات مرة, فابتسم وقال: تري من يحاصر من, نحن أم هم؟.
في جرد الموقف بعد الغزو قالوا إن إيران ربحت حتي الآن ست جوائز, تتحفظ عليها ولا تريد الإعلان عنها هي:
* انها تخلصت من نظام صدام حسين الذي ناصبها العداء منذ قامت الثورة, واستنفد في حرب السنوات الثماني طاقاتها البشرية والعسكرية, وظل بعد زوال تهديده مصدر ازعاج لها.
* انها أصبحت مطمئنة في ظل تزايد الثقل الشيعي وفاعلية الدور الكردي في إدارة العراق, إلي أن أي حكومة منتخبة في بغداد ستكون صديقة لإيران, وفي أسوأ الأحوال, فلن تكون معادية لها, حيث المعروف ان طهران تحتفظ طيلة ربع القرن الأخير علي الأقل بعلاقات وطيدة مع القيادات الشيعية والكردية العراقية.
* ان وجود الاحتلال الأمريكي في العراق, الذي تري طهران انه سوف يستمر لبعض الوقت, سيحفظ لإيران مكانتها كقبلة للشيعة. وكان البعض قد تساءلوا بعد سقوط نظام بغداد عما إذا كانت حوزة النجف الأشرف, المقامة حول ضريح الإمام علي, سوف تسترد مكانتها التقليدية والتاريخية التي كانت قد انحسرت لمصلحة مدينة قم بسبب ضغوط النظام البعثي, إلا أن ذلك التساؤل لم يعد مثارا الآن. إذ تشير دلائل عدة إلي أنه يجري الآن الحاق حوزة النجف ذاتها بحوزة قم. وقد تقاطر علماء قم علي مدينة النجف بعد سقوط النظام السابق ـ ولايزالون ـ لتحقيق هذه المهمة.
* ان طهران لم تعد تتخوف كثيرا من التهديد الأمريكي, الذي عمل علي تطويقها بالقواعد العسكرية التي زرعت في دول وسط آسيا, منذ احتلال أفغانستان في عام2001, ذلك أن وجود150 ألف جندي أمريكي في العراق من شأنه أن يجعل ذلك العدد الضخم من القوات في متناول الإيرانيين إذا ما حدث أي تهديد. حتي إن أحدهم قال إن هؤلاء الجنود سيصبحون رهائن لدي الإيرانيين في هذه الحالة. والذي لاشك فيه أن إيران تحسبت لذلك الاحتمال. وأغلب الظن أن المسئولين العراقيين الذين تحدثوا عن التدخل الإيراني في العراق, كانوا يقصدون الإشارة إلي الأعداد الكبيرة من ذوي الأصول المختلطة التي عبرت الحدود إلي العراق, وكمنت فيها لمواجهة أي موقف يزعج إيران مستقبلا.
* ان إيران ضمنت محاصرة عناصر منظمة مجاهدي خلق الذين كان النظام السابق قد آواهم وسلحهم وأقام لهم معسكرات خاصة في العراق, الأمر الذي كان مصدر إزعاج متقطع لطهران. وبعد سقوط النظام جمد نشاط كل هؤلاء, ان لم يتحركوا بدورهم إلي رهائن, حيث أصبحوا عاجزين عن ممارسة أي نشاط, ومهددين في وجودهم في كل وقت.
* ان العراق المدمر الذي شلت فيه مختلف مصادر الإنتاج والمرافق أصبح سوقا كبيرة لمختلف المنتجات الإيرانية, الصناعية والزراعية, بل أكبر سوق لتلك المنتجات, بسبب سهولة النقل وانعدام تكلفتها, الأمر الذي أصبح يعول عليه كثيرا في إنعاش الاقتصاد الإيراني.
في الأسبوع المقبل نتحدث عن الحيرة في إيران من الداخل, بإذن الله.
التعليقات