واحدة من الأفكار التي تحتاج إلى مراجعة في الكويت مقولة (إحنا غير)، أي أننا مختلفون عن الآخرين، لا يجرى علينا ما يجرى عليهم،وهي قد تكون مقولة مغرية للراحة ، وربما فيها بعض الصحة،ولكنها صحة نسبية، وتسمع أيضا من البعض أن التطرف قد لا يصل إلى الكويت، ما دام النفط يغذي شرايين الاقتصاد في بلد صغير. متعارف أهله.
مثل هذه المقولات تعتمد على الرغبة في تأخير معالجة ما يجب أن يعالج،ومع أزيز الرصاص في بعض شوارع الكويت، والمطاردات الأمنية،وسقوط الضحايا لم نعد مختلفين كثيرا عن الآخرين،ولم نعد في وادي النظر بعيدا عن المرآة لمعرفة الحقائق.
لم يكن كاتب هذه السطور ليؤمن منذ أن بدأت معالم التطرف تنتقل من القول إلى الفعل في منطقتنا ، وعلى وجه التحديد منذ الحادي عشر من سبتمبر،أن هناك دولة في المنطقة سوف تكون بعيدة عن رذاذ هذا التطرف، لم تكن البحبوحة المالية قادرة على تقديم المناعة،كما لم تكن الحاجة المادية دافعة كليا إلى التطرف ، كان هناك مرجعية اكبر من اليسر والعسر،من المشاركة أو الحرمان منها، هي المرجعية الفكرية، فمتى أصبح الشخص مقتنعا بأن كل ما حوله (كفرا) والعياذ بالله ، أصبح مقتنعا بان كل الآخرين خارجين عن الملة، وجب حربهم ، وتختلف الحروب من القول المغلظ إلى الفعل المبرمج.
وإذا لم يكن ما يحدث في الكويت بقادر على أن يعد بعضنا لمراجعة نظرية (إحنا غير) فهي قد تكون مثلبة وطنية، إلا أن إعادة النظر هنا لها شروطها، فهي لا بد أن تتوازن بين التهويل والتهوين ، فكلاهما ضار على البلاد والعباد.
الإرهاب بكل أشكاله وفي كل العصور يبدأ فكريا،أكان هذا الإرهاب يتعاطى الموضوع القومي أو الفئوي أو السياسي أو الديني، انه إخضاع جمهرة الناس أولا لمقولات يبدو للآخرين صعوبة اختراقها،وما نحن بصدده هو أن يظهر البعض مسلما ومن ليس معه في التفكير كافرا أو علمانيا،وهي صيغة اخف ومبطنة للصيغة الأولى ، والتسليم بمثل هذه الأطروحات مقدمة للتسليم والموافقة على احتكار الفكرة والرأي ومن ثم الدين، وهي هنا الإسلام دين الناس جميعا في هذا البلد،ومحاولة قصره على فئة هي مقدمة منطقية للتحكم في الشعور الشعبي، ومن ثم استخدامه سياسيا،وهي تكتيكات لم تنجو منها الوطنية أو غيرها من الشعارات التي تستخدم لإشاعة جو من الإرهاب الفكري، وصولا لإذعان الآخرين لكل ما يطرح والسير خلفه دون مناقشة.
كون الكويت بلدا مسلما عرف أهلها بكونهم مسلمين تقاة سلم الكثيرون منهم بطيب خاطر على سرقة الشعار واستخدامه سياسيا، والتسليم بحد ذاته أوجد مرجعية خارج المرجعية الوطنية، التي من المفروض أن يكون المواطنون فيها متساوون.
وتبدأ المقولات تأخذ طريقها في الصغائر أولا ثم تنتقل إلى الكبائر، لا للقطات البث التليفزيوني ، ثم لا لاستخدام عبارات بعينها في الترحيب والمباركة ، وتغييرها إلى عبارات أخرى، ثم لا للتعليم المشترك، ثم لا لانخراط المرأة في الشأن العام، ثم لا للبنوك العامة المعروفة،ثم لا للسينما ، ثم لا للدستور ثم لا للقوانين ، ثم لا لأشياء أخرى كثيرة تقود في النهاية إلى أن تفرض تلك القوى برنامجها على الناس ،في سبيل طلب النصرة السياسية، ثم تتحول بعض فرقها إلى العنف في ظروف معينة، وتحت تأثيرات أخرى مصاحبة، من اجل تحقيق تغيير في المجتمع بالقوة،هو تغيير سياسي في صلبه ملبسا بلبوس الدين.
لعل أفضل ما سمعت في هذا الأمر من رأى شجاع، وقد قيل على الملأ في إحدى الندوات التليفزيونية ، ما قاله الأمير خالد الفيصل ، أمير منطقة عسير، الذي لاحظ بثاقب بصيرة تعليقا على مثل هذا الموضوع من الترضية،أننا قد تخلصنا من أشخاص حركة جهيمان (التي احتلت جماعته المتعصبة الحرم المكي عام 1979) ولكننا تبنينا أفكارهم،. تلك المقولة الثاقبة أيدتها دراسات علمية عديدة اطلعت عليها، وهي تُجمع على حقيقة تقول كم هي مخادعة للنفس الاستجابة لأفكار خاطئة مؤسسة على مقولات قيلت لزمن مختلف آخر، على أنها من صلب الإسلام، بناء على تصور بالاحتواء والاسترضاء،ولقد أثبتت دراسات من حولنا في هذا الموضوع أن (الاسترضاء) خوفا أو طمعا من قبل الدولة، في مصر والجزائر وغيرها من البلدان ،أدى إلى إغراء المتطرفين بالاستمرار والتوسع. فمن محاولة قتل المرحوم فرج فوده، الذي شهد المرحوم محمد الغزالي في المحكمة بتحليل دمه في الشارع، إلى محاولة قتل الرئيس حسني مبارك في أثيوبيا في شهر يونيو 1995. أنها دورة عنف كاملة أصبحت تؤلف فيها الكتب.
حقيقة الأمر أن دور الدين في الدولة الحديثة يحتاج إلى تعريف، فالرضا بان الدين ملك لجماعات بعينها في المجتمع، هو المنطق الخطأ، لأنه يقود حكما إلى الافتراض أن من ليس منضما لهذه الجماعة هو خارج بالضرورة عن الدين،وان افترضنا جدلا ذلك وهو افتراض نظري وخاطئ ، فمن هي الجماعة على وجه التحديد،وهم كثر في تجمعات مختلفة، تكاد تكون متناحرة فيما بينها، التي تدعي بالصحيح من الدين الذي يجب أن نتبعها؟
كل التجربة الواسعة في السنوات السابقة على الأرض أثبتت بما لا يرقى إلى الشك، انه وأن استطاعت بعض هذه الجماعات الحشد وأتقنت مفاعيل التنظيم خاصة للشباب، إلا أن التجربة أثبتت أيضا في أماكن كثيرة أنها مُنيت بفشل ذريع في تقديم برنامج حياتي واقتصادي متماسك ،وبرنامج سياسي مستساغ، فليس هناك كثيرون في عالمنا ممن يودوا اليوم أن يعودوا إلى حياة القرن الثامن الميلادي، بعض تلك الجماعات ارتدت إلى تكتيكات السلب والنهب والتكفير والزجر، وها هي تجربة عريضة في كل من مصر والجزائر والسودان، وحتى البوسنة ماثلة للعيان. بل وصلت إلى التقوقع والإجرام ، شهدت عليها مقولة زوابري الأمير الثالث للجماعة الجزائرية، فقد قال (في حربنا لا مكان للحياد، باستثناء الذين معنا، كل الآخرين مرتدون) كل هذه التجارب تقول ان العنف كوسيلة للقفز على السلطة وتطويع المجتمع قد فشلت فشلا ذريعا، إلا أن المشكلة تبقى في الدولة الحديثة ذات جانبين، الأول ثقافي، والثاني سياسي واداري. فالخطأ الذي حُذر منه مرارا وهو أن لا يُنهي عن السلوك العنفي الشاذ ذاك، وتتبنى السلطات المختلفة مقولاته وإرشاداته،فهي غالبا نقليه ومختلف عليها، تُضيق المساحة الاجتماعية وتهيئ الأرض لظهور جيل آخر من العنف،وثانيا وربما في نفس مستوى الأهمية، النظر في فتح مغاليق هيكلية بيروقراطية حرون،منعت الناس أشيائهم. فالتزود في مدارسنا بقيم لا يمكن إيجادها في دولة ومجتمع دنيوي تؤهل الشباب بسهولة إلى تشرب المقولات المتطرفة فيخرج الشاب حائرا بين ما يراه وما يتخيله.
الإبحار في اليم الغزير للعصرنة يحتاج إلى شجاعة،وتقديم نموذج قابل للاستمرار يريح الناس، ولا بد من الاعتراف أن هناك ممانعة بشكل ما من ولوج التغيير المبرمج، ترددا أو خوفا من النتائج،وهناك في نفس الوقت شكوى من تراكمات لمشكلات لم تحل لا تخفى على احد. في هذه المراوحة يكمن الخطر،فالإسلام بخير، كان هكذا لقرون وسيظل لقرون قادمة، التحدي الحقيقي هو بناء الدولة العصرية التي لا تحتاج للدخول إلى أبوابها الصحيحة والصحية إلى كثير من التفكير،فالأدوات معروفة،وليست بخافية على اللبيب.