باندا آتشي (إندونيسيا) من نور الدين العويديدي: رغم مرور أكثر من شهر على كارثة تسونامي المروعة، فإن رائحة الموت لا تزال في كل مكان، ومظاهر الحزن بادية على الوجوه، التي تحاول جاهدة أن تنسى. ولا تنسى، فالمأساة أعمق من أن تطوى صفحاتها قبل مرور زمن طويل، وفصولها لا تزال تتوالى، والجثث لا تزال تجمع وتدفن، والألم يعتصر القلوب.. إنك في إقليم آتشي المنكوب بواحدة من أعظم مآسي العصر: زلزال سومطرة الرهيب، وأمواج تسونامي، التي لا تأتي على شيء إلا أحالته دمارا ويبابا من بعد عمار.
منذ وصولنا، برفقة وفود إعلامية عربية من دول عديدة، مطار مدينة ميدان الإندونيسية، التي تبعد أكثر من 300 كلم عن باندا آتشي، عاصمة إقليم آتشي المنكوب، بدأنا نلمس المأساة.. إنها إيداواتي محمد آدم، صبية قد خرجت للتو من مرحلة الطفولة، التقينا بها مصادفة في المطار، تبدو مبتسمة على الدوام، لكن حزنا عميقا عميقا في القلب، يظهر من خلف العيون.. فتاة في مقتبل العمر فقدت أمها و6 من أفراد عائلتها، تحمل صورهم معها، وتعرضها على كل من يفتح معها سجل المأساة..
حين حطّت بنا الطائرة في مطار باندا آتشي، بعد سفر مرهق طويل، تعاظم الشعور بأننا مقدمون على متابعة فصول مأساة كبيرة.. فالمطار الصغير مكتظ بالمسافرين بشكل لم أر مثله من قبل، واستلام الحقائب مثل استلام المساعدات، تزاحم وتخاطف وتدافع بالمناكب والركب، كأن الناس لم تعد تفرق في هذا الإقليم المنكوب بين حقائق الأشياء. وحول المطار تنتشر الخيام في كل مكان، معلنة للزائر أنه حل بإقليم منكوب.
بعد معاناة ومجاهدة وصبر حط رحالنا في دار رحبة جميلة فسيحة كأنها قصر منيف. وحولها بساتين على مد البصر في بلد جميل أخضر بديع مثل غابة كبيرة عالية الأشجار. وفي تلك الدار وجدنا فصلا من فصول المأساة.. فالعائلة، التي يؤدي الوالد والوالدة فيها مناسك الحج في الديار المقدسة، فقدت في الكارثة الأليمة واحدة من أحلى بناتها، تظهر في صورة كبيرة في فناء الدار بحجابها الأحمر الهادئ، وملابسها المتناسقة الجميلة، ووجهها الصبوح، الذي افتقدته العائلة، ولا تعرف إليه سبيلا.
وضعنا الأحمال في الدار وخرجنا. وعلى بعد كيلومتر أو اثنين منها وجدنا جرافة ضخمة بين الحقول الخضراء البديعة تحفر حفرا ضخمة، توضع في كل واحدة منها عشرات الجثث المشوهة، مجمعة من أماكن مختلفة.. اختفت ملامحها فأضحت مجرد أكوام لحم في أكياس بلاستيكية سوداء، بروائح كريهة لا تطاق.. أرجل ثقبت أكياسها وظهرت منها، ورؤوس وأكتاف وأيد فقدت معظم ملامحها، وصارت مجرد بقايا رؤوس، وبقايا أكتاف، وبقايا أيد، بألوان قميئة بين الأبيض الوسخ، والأزرق الممقوت.. ملقاة في مقبرة جماعية ضخمة، بعضها فوق بعض كأكياس الطحين المهترئة، قال لنا الحاج فهمي، وهو طالب علم درس في الأزهر الشريف، وعمل مترجما لنا، إنها مقبرة تضم 15 ألف قتيل.
تركنا المكان والدوار يلفني لفاً، والقيء يأتيني ولا يأتيني، وصور الأكياس البلاستيكية، من أحجام مختلفة، ومشاهد الأرجل والرؤوس والأكتاف لا تغادر عيني. غير أنه غير بعيد من المكان مررنا بسوق.. الحياة هنا تجري على طبيعتها، والناس يتسوقون، والحركة على أشدها، وكأن الإقليم لا يعرف نكبة، فالناس لضخامة المأساة ألفوها، ولم يجدوا بداً من التعالي عليها حتى تستمر الحياة.
الحقول خضراء، والأشجار باسقة تملأ الأرض والفضاء. وثمار جوز الهند تبدو معلقة في السماء دانية شهية، وهذا حال معظم البلاد، مع امتياز لإندونيسيا عن سريلانكا، التي جئنا منها للتو، بنظافة شوارعها واتساعها، وأناقة ناسها واستواء أجسامهم ونيلهم من النعيم نصيبا، رغم ما يصادفك هنا أو هناك من ظواهر مخالفة.. السيارة تسير بسرعة، تطوي المسافات طيا.. وعلى امتداد البصر أحياء بأكملها، قرب المحيط، أبيدت عن بكرة أبيها في مدينة باندا آتشي.. قرى كاملة على أطراف المدينة اختفت عن الوجود.. وجوه وأناس يبدو الرعب في أعينهم، يحاولون جاهدين السيطرة على روعهم، ومواجهة متطلبات الحياة.

*رواية الكارثة على لسان الناجين
من الجو تطالعك أماكن كثيرة وقد طحنها الموج طحنا.. مساحات شاسعة تبدو وقد دمرت تماما، وصارت مجرد أثر بعد عين.. قرى بكاملها صارت في بطن البحر، أو خسفت بها الأرض فأغرقها الماء. وفي البر، مشيا على الأقدام أو سيرا بالسيارة، يقترب المرء أكثر من دقائق المأساة وتفاصيلها، ويرى الحزن والإجهاد والخوف من المستقبل بادٍ على وجوه الناس.
في قرية كوماريا، التي تبعد 34 كلم عن باندا آتشي، التي محيت تماما، ما عدا مسجدها، التقينا مسلم عبدالجبار، شاب في نهاية الثلاثينات من عمره، فقد خمسة من أفراد عائلته، بينهم والده ووالدته وجدته وشقيقان له.. يبدو حزينا، لكنه يرفض أن يحول حزنه بينه وبين الوفاء بالمسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقه: “جئت أجمع الأخشاب من هنا لأبني بها كوخا لي ولزوجتي وأطفالي، فلا يمكنني أن أبقى مكتوف الأيدي أنتظر المساعدات”. قال لنا عبدالجبار ذلك وأضاف مسترجعا الكارثة “الموج كان عاتيا ورهيبا.. ضرب المناطق القريبة من البحر.. لم أصدق الأمر، رأيت أناسا يهربون.. صعدت فوق المنزل لأرى ما يحدث.. نزلت على عجل وأخذت زوجتي وأطفالي بسرعة.. أوصلتهم إلى الجبل القريب، وحين عدت لآخذ أبي وأمي وجدتي وأخوي، وجدت الماء قد أخذهم ودمر كل شيء”.
سكت عبدالجبار قليلا، وأضاف مكلوما “كان الماء على ارتفاع هائل.. جاءت موجة ضخمة من ناحية الميناء، شرق القرية، وحين ارتدت قليلا جاءت موجة رهيبة من ناحية الغرب.. كانت الموجة الثانية هائلة ومرعبة ومدمرة لكل شيء.. الموج كان يأتي من الشمال الشرقي ومن الغرب، ووضعت القرية بين كفي كماشة مهولة، وكان الماء يدمر كل شيء يطاله.. أنظر ذاك الخزان الضخم للوقود لقد فصل عن تلك الخزانات هناك.. انظروا إلى الشرق هناك خزانات أخرى قذف بها الموج العاتي بعيدا.. شتتها كما يشتت طفل ألعابه بعد فورة غضب”.
العجوز حسن أبو العلا (75 عاما) كان جالسا على كرسي خلف مصطبة عالية في مخيم اللاجئين، قرب قرية كوماريا المنكوبة.. شعر رأسه الخفيف الواقف لم يبق فيه من سواد، وشعيرات بيض واقفات نافرات في الطرف الأدنى لذقنه، وكلما صعد المرء بنظره إلى أعلى خف الشعر في وجه الرجل العجوز وتناثر في أماكن متباعدة من الوجه الذي عمته التجاعيد، كأنه صحراء ذات كثبان.. رحب بنا بابتسامة لا تخطئها العين، وقال سارداً ما رأى من أهوال “سمعت ضوضاء كبيرة.. خرجت من البيت، فرأيت الناس يجرون، ويقولون الماء الماء.. لم أفهم الأمر، ولم أعرف ماذا عليّ أن أفعل، لكني من دون تفكير أخرجت من قدرت على إخراجه من عائلتي.. لقد فقدت في المأساة أحد أبنائي و3 من أحفادي”.
فيزان ذو قران، وكان صاحب دكان، في ما مضى من سنين وأزمان، قبل تسونامي ومأساة الطوفان، فقد 7 من أفراد عائلته: الأب والأم والعم وأربعة من الأشقاء.. يبدو غير قادر على استحضار من خسر من أهله. يعد الأسماء والأشخاص على أصابعه.. يحاول أن يحصيهم لكنه يخطئ الإحصاء فيعود من جديد. كان لا يزال مذهولا رغم مرور الأيام. وقال إنه لا يعرف ماذا سيفعل.. وأشار الى أنه خائف، ولا يدري كيف يكون المصير. قال إنه يفكر في بناء دكان جديد يعيش منه بكرامة، ولا يريد أن يبقى مكتوف الأيدي ينتظر المساعدات.. الناس هنا، بخلاف سريلانكا، كرام النفوس تملأهم العزة، ولا يريدون التعويل على غيرهم، ولا يسألون الناس إلحافا، لكن الجوع اضطر بعض الأطفال منهم للتسول على قارعة الطريق.
استأنفنا المسير.. السيارة تسرع وتخفف من سرعتها، بحسب أحوال الطريق، ونحن نسير ونتوقف كلما رأينا ما يلفت النظر، وعن اليمين والشمال ينتشر الحطام.. دور محطمة.. بقايا حذاء وإطار تلفزيون.. زجاجات مشروبات غازية مبعثرة هنا أو هناك.. أقلام ولعب أطفال محطمة، وأقراص ليزر مدمجة، كانت تضم أفلاما وصورا ومعلومات لا يستغني عنها أصحابها.. هنا كان أناس يعيشون، يحلمون ويطمحون، يفكرون في المستقبل، مثلما نفكر جميعا، يتعلمون بجد ويثابرون ويرفهون عن أنفسهم بين الحين والحين، ويحلمون ويحلمون ويحلمون.. لكن كل الأحلام تبخرت. كلهم أو جلهم قبروا في مقابر جماعية، أو أكلهم البحر الغادر.. صاروا أرجلا شائهة تثقب أكياس بلاستيكية عفنة، أو رؤوسا وأكتافا وزنودا متحللة، ضاق بها الكيس البلاستيكي الأسود القميء فخرجت منه، تثير رؤيتها الغثيان.. الجميع ماتوا وقبروا، وبعضهم لازال تحت الركام الهائل نائمون.

*دمار لا يطال المساجد
مررنا ب “ألوناقا”.. هذه القرية دمرت بأكملها، فلم يعد فيها أثر لحياة. تلوح هنا أو هناك بعض بيوت خربة، أو أنصاف أو أخماس أو أعشار بيوت.. اللاقط الهوائي لازال صامدا هناك.. أي القنوات كان يلتقط لأهله.. الأكيد أننا لا ندري، لكن ما نعرفه أن الجميع هنا ماتوا أو هجروا المكان.. الدور خربة محطمة مدمرة وأكثرها محي من المكان محوا كما يمحو طفل حروفا لم تعد تعجبه كان قد خطها على ورق.. إنه الأثر نفسه على ورق الطفل وعلى القرية، فما يبقى مجرد أشياء باهتة لشيء حقيقي كان.
كل شيء في “ألوناقا” دمر ما عدا مسجد القرية لم يمسسه سوء.. بقي واقفا شامخا بين الحطام. وليس هذا هو المسجد الوحيد الذي صمد في وجه أمواج تسونامي العاتية، فعلى بعد نحو 400 متر من هناك ينتصب أيضا مسجد آخر شامخا بين الخراب. وفي قرية “كوماريا” كنت قد شاهدت مسجدا ثالثا ظل صامدا وحده بين الخرائب والدمار. الموج في تلك القرية دمر عيادة طبية وسوق السمك، وهما لا يبعدان عن المسجد سوى أمتار معدودات، ونقل بقوته خزانات ماء عملاقة بعثرها في المكان، كما تبعثر لعب الأطفال، لكن المسجد ظل شامخا لم يمسسه سوء. وفي قرية “لامبري” وبينها وبين ألوناقا جسر ضخم شديد الارتفاع لا يزال الطمي يملأ جوانبه، يتكرر المشهد، فالمسجد هو الوحيد الباقي سليما معافى بين مئات المساكن والمخازن، التي لم يبق منها سوى بقايا تؤشر إلى أن هنا كانت حياة عامرة صاخبة، لكنها استحالت إلى عدم.
السيارة تسير مسرعة.. اقتربنا في طريق العودة من باندا آتشي، عاصمة الإقليم المنكوب.. في الأحياء القريبة من البحر في حي آجون ينتصب مسجد آخر شامخا بين الدمار.. هذه مساجد شاهدتها بعيني بقيت سليمة بين الخرائب، وحدثني الأهالي عن قصص أخرى كثيرة، ومساجد أخرى بقيت سليمة معافاة شامخة، رغم ما حصل عند حوافها من دمار.

*شهود آخرون
مررنا بآجون سريعا.. دخلنا باندا آتشي وجاوزناها متجهين نحو الغرب، حتى وصلنا منطقة لملوم.. هنا ينتصب مخيم ضخم.. عشرات الخيام بين فوضى ونظام.. منظمة الصليب الأحمر تقيم هنا مركزا صحيا صغيرا ومكانا لتنقية المياه ومعالجتها.. منظمة طبية فرنسية تعالج المرضى والمصابين وتواسي المنكوبين، غير أن الناس يتحدثون أيضا عن حضور معقول لإغاثات عربية وإسلامية، لكنني لم أر لها بنفسي وجودا على الميدان، ما عدا الهلال الأحمر القطري وسمعت عن نشاط للهلال الأحمر السعودي.
التجول في المخيم أعظم أثرا على النفس من مجرد سماع كلمات من الناس ومن أحاديث مسؤولي المنظمات الإغاثية المحلية والدولية عن أعمالهم في خدمة اللاجئين المكدسين في الخيام.. خيام شبه مفتوحة تكشف ما في بطنها للعابرين.. الناس يجلسون متزاحمين، أو يقفون عند أبواب الخيام وبالقرب منها.. سيدات وصبايا وأطفال يجلسون بطرق مختلفة.. رجل جاوز الخمسين واقف عند ظهر خميته.. يشرب سيجارته بعمق وحزن يهد الجبال، ورأسه مطرق إلى الأرض، وكتفاه منخفضتان تكادان تلامسان صدره بعد ما هدتهما هموم أثقلت عليهما وبالغت في الإثقال.
أم تهدهد طفلها الصغير، الذي لا يريد النوم أن يأتيه.. وضعته شبه عار في أرجوحة من قماش لعله ينام.. النوم اللعين يهرب منه.. صحافيون أجانب يتجمعون حوله، ويداهمونه بآلات تصويرهم.. أضواء الكاميرات، التي تخطف الأبصار، تقتحم عليه خلوته المعتمة.. هرب النوم عن عيني الطفل فانتفض جالسا والحيرة على وجهه.. “من يكون هؤلاء؟ ولماذا يتجمعون حولي؟.. ماذا عساهم يفعلون؟”، لعلها أسئلة قد ألحت على عقله الصغير، وأخرجته ولو مؤقتا من هول ما كان يُذهب نومه قبل مجيئنا، وما يعانيه من كوابيس، ناجمة عن هول ما شاهد ورأى من أهوال تسونامي الغادر القتال.
جبنا أطراف المخيم.. توغلنا فيه برفق حتى عدنا إلى مبتداه، وهناك قابلنا عبد الله أحمد، وكان موظفا حكوميا قبل الزلزال والطوفان، رجل في برزخ بين الكهولة والشباب، يبدو وسيما وأنيقا، رغم عيشه بين الخيام. كان واقفا وبين يديه بنتان صغيرتان كزهرتين فواحتين، إحداهما، في السادسة، والأخرى في الثامنة من العمر. الصغرى تدعى رفقة محرمة، وسميت بهذا الاسم لأنها ولدت في شهر محرم الحرام، والكبرى تدعى ريهال فيطريال، فنالت اسمها هذا لأنها ولدت في عيد الفطر المبارك، فأخذت اسمها من اسمه.
طيلة حديثه معنا كان عبد الله أحمد يحضن بيديه بنتيه رفقة وريهال، كأنه لا يزال خائفا عليهما من غدر الماء. تحدث معنا بتأثر، لكن البسمة المحيرة لا تفارق ثغره.. سرد علينا تفاصيل المأساة “دهمنا الموج فهربنا بالأطفال لا نلوي على شيء مما نحتاجه في الدار.. فرقتنا المياه أنا وزوجتي لمدة يومين، لم أدر ما حصل لها.. كنت أخشى أن تكون فارقت الحياة، لكننا التقينا أخيرا.. لم تمر الأمور بسلام فقد فقدت 4 من أفراد عائلتي الكبيرة، وقد أرسلت ابني البكر البالغ من العمر 14 عاما إلى العاصمة جاكرتا، لأنه أصيب بتوتر شديد، ورعب دائم، وساءت أحواله النفسية كثيرا، فأرسلته إلى أقاربي في العاصمة، حيث توجد ظروف مناسبة للترفيه، لعله ينسى هول ما حصل”.
أما برهان الدين عبد الله، عمدة منطقة لامغاريا، فشيخ جاوز السبعين، وقف يحدثنا متكئاً على عكاز لا يفارقه، وهو يقول بلهجة سلطوية ظاهرة “أنا هنا في المخيم لا زلت العمدة.. أنا أشرف على المخيم وأرعى شؤون الناس.. الناس هنا في وضع صعب، لكن الحياة مستمرة.. معي 50 شابا نذهب كل يوم لجمع الأموات ودفنهم.. دفنّا حتى الآن أكثر من 5 آلاف قتيل، وأتوقع أن ألفا آخرين على الأقل من القتلى ما زالوا تحت الأنقاض”.
سكت الشيخ برهان للحظات ثم أضاف “همي الآن مركّز على ثلاثة أشياء: استكمال دفن القتلى، وإعادة بناء بيوت للسكان، وتوفير أعمال لهم، بعد فساد الأرض، التي كانوا يزرعونها، بسبب ملوحة مياه البحر”. وقال مسترجعا الذكرى القريبة، التي لا تزال بين عينيه “في البداية لم يكن هنا معنا أحد.. طيلة أيام ثلاثة لم يكن معنا أحد.. أضر بنا الجوع والعطش والتعب والخوف، ثم بدأت تصل وفود الحكومة والمنظمات الإغاثية المحلية والدولية”.
غير بعيد من هناك، على مسافة 20 دقيقة باستخدام السيارة قذف السيل العرم بسفينة عملاقة على قرية كانت آمنة مطمئنة.. السفينة هائلة جدا، لا يمكن لها أن تسير في المياه الضحلة، ولا بد أن الموج كان عاليا جدا حتى قدر عليها.. وما بين البحر والمكان الذي استقرت فيه تلك السفينة العملاقة كل شيء جرى طحنه وهرسه طحنا وهرسا.. خطت اللعينة لها طريقا هائلا بين المنازل الخربة، التي لا تزال واقفة مدمرة.. أما المكان الذي مرت منه فصار مجرد أحجار متناثرة وبقايا أخشاب وأوحال عظيمة.

*سياسة وإغاثة ودين
المجتمع الإندونيسي مجتمع للدين حضور واسع فيه.. الأسماء عند أهله تقترن بالأشهر والأعياد الإسلامية، والمساجد تنتشر في كل حي وكل قرية، ومعظم النساء يلبسن الحجاب، لكن الحجاب لا يحجبهن عن الناس والحياة، فالمرأة الإندونيسية حاضرة بقوة في الشارع وفي مؤسسات الدولة والمجتمع.. وحيث ما سرت تجد نساء وفتيات يمتطين دراجات نارية، ويزاحمن الرجال في الطرقات وفي الأسواق، وفي سائر مظاهر الحياة.
ومن علامات تدين المجتمع الإندونيسي مبادرته إلى تنظيف المساجد بعد الطوفان.. فكل المساجد في الأماكن التي ضربها الموج القاتل عادت نظيفة نقية مسيّجة عن السوائم والكلاب، رغم أن سائر ما حولها لازال خرابا ودمارا. وإذا كانت نسبة المسلمين في البلاد بعد 3 قرون من الاحتلال والتغريب والتبشير قد صارت في حدود 86 في المائة، وكانت أكثر من ذلك قبل قرون، فإن نسبة المسلمين في إقليم آتشيه تبلغ 99 في المائة، والبقية من التجار الصينيين البوذيين والكونفيشيوس. ومن هذا الإقليم دخلت الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد، التي تضم 14 ألف جزيرة، تمتد على مساحة مليوني كيلومتر مربع، ويعيش عليها 220 مليون نسمة، بحسب آخر التقديرات، منهم 15 في المائة من الأميين.
قبل تسونامي كان الانفصاليون ينشطون في إقليم آتشي، ويشنون هجمات على الجيش وقوات الأمن الحكومية في القرى لا في المدن، لكنهم جمدوا عملهم بعد الكارثة، وبدأت تتواتر أخبار عن مفاوضات تجري بينهم وبين الحكومة المركزية لإيجاد حل. وفي الإقليم اليوم أكثر من 40 ألف جندي حكومي، ونحو 16 ألف جندي أمريكي ومثلهم من الجنود الهنود وألف جندي أسترالي.. والحساسية في البلاد عالية تجاه الأستراليين والأمريكان. فنائب الرئيس الذي يمنعه الدستور من التصريح في حضور الرئيس خرج عن صمته وأعطى القوات الأجنبية مهلة نهائية للخروج من البلاد، توافق يوم 26 آذار (مارس) المقبل، لكن الرئيس عقّب عليه وقال إن ذلك الموعد هو موعد للحكومة الإندونيسية لتكون جاهزة للقيام بمهامها في الإقليم دون معين، مخففا من وقع حديث نائبه. والموضوع لحساسيته الشديدة يثير جدلا في البلاد، والجدل الأكبر المتوقع سيكون بعد الأمد المضروب لخروج القوات الأجنبية عامة والأمريكية خاصة، إن لم تخرج تلك القوات.
لعبت الأحزاب الإندونيسية وخاصة الإسلامية منها، وبالخصوص حزب العدالة والرفاه، دورا كبيرا في إغاثة المحتاجين، لكن دور الحكومة دون رضا الناس. فالجيش الإندونيسي فاجأته الأحداث. وبالرغم من وجود 40 ألفا من جنوده في الإقليم، إلا أن فقدانه لما يكفي من جرافات وزوارق وطائرات ومعدات ثقيلة، جعل منه مجرد أفراد لا طاقة لهم ولا حول أمام حجم الكارثة، التي قد تحتاج إلى سنوات لإزالة آثارها.
في المقابل هبت منظمات وأحزاب ورجال أعمال وخيّرون وقنوات إعلامية محلية عديدة لتعبئة الرأي العام لينخرط الجميع في معركة الإنقاذ. وجاء الدعم الدولي ليخفف من أثر الكارثة. لكن الإقليم لن يسترجع وضعه الطبيعي قبل سنين، فحجم الأنقاض أكبر من طاقة الدولة والمنظمات المحلية والدولية. ولقد سجل العرب والمسلمون حضورا ضعيفا في نجدة إخوانهم في الدين من الكارثة المهولة. ويتوقع صحافيون عرب يقيمون في إندونيسيا أن ينعكس ذلك مستقبلا على حجم اهتمام الإندونيسيين بالقضايا العربية والإسلامية.
وبالرغم من أني سمعت في أماكن متضررة عديدة عن حضور جيد للماليزيين والأتراك في إغاثة المنكوبين، فإن تأخر المساعدات العربية، وعدم إتقان المنظمات العربية والإسلامية لفن الدعاية والعلاقات العامة والتعريف بمنجزاتها، أثار ضجة وطنيناً في الإعلام الإندونيسي، حيث علت التساؤلات عن مبررات غياب العرب والمسلمين عن نجدة إخوانهم.
وقال كلود جيدار وهو أحد مديري برنامج الغذاء العالمي في إقليم آتشي، لوفدنا الصحافي، إن البرنامج مد المتضررين ب 5 آلاف طن من المساعدات الغذائية، وأن 70 إلى 75 في المائة من المواد الإغاثية، التي وعدت بها الدول وصلت أو بصدد الوصول. وسبق لبتينا لوشا، الناطقة الإعلامية باسم البرنامج، أن ذكرت أن البرنامج أطعم نحو 700 ألف متضرر سريلانكي، في حين أطعم نحو 300 ألف متضرر في إندونيسيا فقط، حيث يوجد في البلاد 336 ألف مشرد، بحسب بعض التقديرات غير الرسمية. لكن تقديرات أخرى تذهب إلى أن العدد أضعاف ذلك، بل تقول إن عدد القتلى الحقيقي قد لا يقل عن 300 ألف، وإن عدد المشردين قد لا يقل عن مليون نسمة.
ولاحظ زملاء في الوفد الإعلامي العربي أن الحضور الإغاثي الدولي في سريلانكا كان أكبر بكثير من حجم الدعم الإغاثي المقدم لإقليم آتشي، رغم أن حجم الخسائر والأضرار في آتشي أكبر مما حل بسريلانكا، بأضعاف مضاعفة. وتبرر المنظمات الإغاثية الدولية تقصيرها بأن العمل في إندونيسيا يحتاج إلى إسناد لوجيستي كبير غير متوافر لها الآن، بعد تدمير الطرقات وتحطم الجسور، لكننا لاحظنا أن مناطق عديدة أصلحت فيها الطرقات والجسور قائمة، لكن أطفالها يتسولون ما يقيهم شر الجوع، في زمن تقصير العرب والمسلمين، وتقاعس المجتمع الدولي وانحيازه، رغم ما حصل من تضامن دولي محمود مع عموم المتضررين.