إن جلسة الاستماع التي خصصت لكوندوليزا رايس في الكونجرس للمصادقة على تعيينها في منصب وزير الخارجية، والخطاب الافتتاحي الذي ألقاه الرئيس جورج دبليو بوش بمناسبة تسلمه ولايته الرئاسية الثانية، يسمحان بتشكيل تصور مبدئي عما ستكون عليه السياسة الخارجية لإدارة بوش الثانية. والحقيقة أن ما تم تجميعه من إشارات في هذا الصدد متناقض وفي غاية التعارض، فمن جانبها ركزت الدكتورة رايس منذ أول يوم على مفهوم الدبلوماسية، وشددت على ضرورة استشارة الحلفاء والاستماع إليهم فيما ستتخذه الإدارة من قرارات مستقبلية. وإذا ما قدر لهذا التوجه أن يسود خلال السنوات الأربع المقبلة فإن ذلك سيشكل بداية قطيعة مع أهم ملامح العهد السابق، حيث ميز فترة بوش الرئاسية الأولى، نزوع نحو الأحادية، بشكل لا سابق له. فهل ستكون الدكتورة رايس عند كلمتها، وتتبع الأقوال بالأفعال فيما قطعته على نفسها من تعهدات قبل مباشرة عملها؟ إن الوقائع على الأرض هي وحدها ما سيجيب على هذا السؤال مع مرور الأيام. ولكن الأرجح، وما يقوله منطق الواقعية هو أن الولايات المتحدة قد تبدو فقط أقل أحادية مما كانت عليه خلال الفترة ما بين 2002 و2004. أعني أنه لا شيء يدفع، في كل الأحوال، إلى الاعتقاد بأن أميركا ستتبنى سياسة تجسد التعددية وتنبذ الأحادية، هكذا وفي طفرة سياسية مفاجئة. ومعنى هذا الكلام، مرة أخرى، أن الولايات المتحدة ليست في وارد التحول الآن، مهما كانت قناعات كوندوليزا رايس إلى نصير متحمس، أو مناضل لا تلين له قناة، من أجل تعزيز مكانة الأمم المتحدة، أو من أجل إعلاء مكانة القانون الدولي. بل الأوْلى في التحليل، والأقرب إلى المنطق، أن ما سيجري، سيكون أقرب إلى نوع من المزاوجة أو المراوحة بين الأحادية والتعددية، بحسب الظروف، وبمقتضى المصالح، وستكون القاعدة في العمل ما يمكن التعبير عنه بالصيغة الآتية:"أحاديون كلما استطعنا، وتعدديون عندما نريد"، هذا إذا لم يكن ثمة خيار آخر. ويلزمنا أن نقول أيضاً، إن ثمة ملامح أخرى أكثر مدعاة للاستياء، في التصريحات الأميركية الأخيرة على لسان بوش ووزيرة خارجيته. وفي مقدمة ذلك، ما تحدثت عنه كوندي رايس من وجود ستة مواقع متقدمة للطغيان، وهي تحديداً بيلاروسيا، وكوبا، وإيران، ومينمار، وكوريا الشمالية، وزيمبابوي.
وهذه اللائحة من الدول تعيد إلى الأذهان لائحة "الدول المنبوذة" التي سبق أن أعلنت عنها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في إدارة كلينتون، وكذلك قائمة "الدول المارقة" الثلاث التي تشكل "محور الشر" والتي أشار إليها الرئيس بوش في يناير 2002. وللمفارقة فإن إيران هي الدولة الوحيدة التي تكرر اسمها في كل هذه اللوائح، والتي تنظم فيها انتخابات بشكل دوري.
ومع أن إيران ليست دولة ديمقراطية، ليبرالية، على الطريقة الأوروبية، إلا أن الإنصاف أيضاً يقتضي الاعتراف، بأنه لا وجه للمقارنة بين الحياة السياسية في إيران وما يجري في كوريا الشمالية أو مينمار مثلاً.
لقد ألقى جورج بوش على عاتق بلاده مهمة كونية، هي تحرير العالم والتبشير بالديمقراطية في كل مكان. وبالتزامن مع ذلك، سرت تسريبات في وسائل الإعلام، عن تحضيرات عسكرية أميركية وشيكة ضد إيران. وكانت أميركا عبرت مراراً وتكراراً عن استيائها البالغ في برنامج طهران لأسلحة الدمار الشامل. وغني عن البيان أن ذلك يستدعي إلى الذهن ذكريات سيئة للغاية، حيث إن مكافحة الانتشار النووي، وضرورة التخلص من الديكتاتوريات، شعاران استخدمتهما أميركا في مناسبات سابقة. فقد وقع استخدام لافتات من هذا القبيل قبل حرب العراق، التي نرى الآن بكل وضوح نتائجها. والحقيقة أن نظرة متأملة في اللائحة التي ساقتها الدكتورة رايس تجعل المحلل المتفحص يستنتج أن المستهدف منها تحديداً هو إيران، وليس سواها. فليس ثمة ما يدعو أبداً إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تجهّـز عملية مسلحة لتحرير بيلاروسيا أو زيمبابوي مثلاً. ولأسباب ذات صلة بالعلاقات العامة، وقع فقط تنويع وذكر لهذا الكوكتيل المنوع في الدول من مختلف القارات، حتى لا يبدو من الأمر أن المستهدف هو دولة إسلامية فقط.
ولسائل أن يتساءل: بأية صفة، وبأي حق يكون من حق الولايات المتحدة أن تحدد لوائح "الأشرار" و"الأخيار" على هواها وأن تتولى تصنيف الدول في هذه الخانة أو تلك، بحسب رضا الإدارة الأميركية أو عدم رضاها عن الأنظمة الحاكمة في تلك الدول؟!
ولو كان مدى مناصرة الديمقراطية والدعاية لها هو المعيار، فهل يمكن اعتبار الأميركيين بالذات، في موقع يسمح لهم بذلك؟ وهل هم خير من يتولى تسويق الديمقراطية؟ ثم إذا اعتمدنا الديمقراطية معياراً، أيضاً، ألم يكن من الوارد أن تأتي دول أخرى في تلك القائمة، ولكننا لا نجد لها فيها أثراً. والسبب أن الفرق بينها وبين تلك الدول الواردة، هو فقط أنها ذات علاقات جيدة وقوية مع واشنطن. وعلى سبيل المثال، فهل يمكن اعتبار إسلام أباد أقل خطورة من ناحية انتشار الأسلحة النووية من طهران؟ هذا إضافة إلى تناقض آخر أمرّ وأدهى بكثير، وهو أن ما تدعيه أميركا من دفاع مستميت عن حقوق الإنسان، لا يبدو هنا معززاً، ولا تبدو مصداقيتها جديرة بالاعتبار. كيف لا، وها هو السيد ألبرتو جونزاليس، الذي اشتهر بتبريره وتقنينه للتعذيب يوم كان مستشاراً قانونياً للبيت الأبيض، يجد نفسه الآن وزيراً للعدل. إن ما يقوله الواقع، وما جاءت كل هذه المؤشرات شاهدة عليه هو أنه لا شيء أدعى للسخرية من ادعاء الأميركيين الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والترويج لهما، بعد ما جرى في أبوغريب وجوانتانامو.
أما فيما يتعلق بالقيم الكونية العامة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان فلا يمكن تطبيقها بشكل انتقائي. فقبل أيام أعلنت المنظمة الأميركية للدفاع عن حقوق الإنسان "هيومان رايتس ووتش" (HRW)، عما اعتبرته "نتائج كارثية" لوضعية حقوق الإنسان في الولايات المتحدة نفسها. وحسب تلك المنظمة واسعة الاطلاع فإن سنة 2004، انتهت على حالتين كل واحدة منهما أشد من الأخرى، دفعاً إلى القلق والانشغال: الأولى هي العجز الفاضح للمجتمع الدولي عن الحيلولة دون أعمال التطهير في إقليم دارفور. والثانية هي الطريقة التي بددت بها إدارة بوش رصيد أميركا وسمعتها التقليدية كدولة مدافعة عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. وكل هذا، ولنكرر ذلك، جاء وفق تقييم منظمة هي الأبرز بين المنظمات الأميركية، المدافعة عن حقوق الإنسان.
إنني أعتبر تلك الجملة التي قالت فيها كوندي رايس:"إن كارثة تسونامي كانت فرصة سانحة ونادرة أمام أميركا لكي تتقرب من العالم الإسلامي"، سقطة دبلوماسية على الأقل، وربما سيتم تذكيرها بها، في مناسبات قادمة. ذلك أنه في إندونيسيا، وجنوب شرق آسيا، فالمؤكد هو أن كارثة تسونامي لن تبقى لفترة طويلة في الذاكرة الجمعية، ولن يتذكرها الناس بشكل خاص باعتبارها فرصة للتقارب مع الولايات المتحدة. إن الوقاحة تختفي أحياناً أيضاً وراء الرحمة ورقة القلب والمشاعر، والتظاهر بالشفقة على الآخرين. إنها تبدو أحياناً بديهية جداً، إلى حد تصعب معه ملاحظتها.