برغم كل الشهادات العلمية التي يحوزها كثير من العرب والمسلمين، إلا أن كثيراً منهم لم يفهم إلى هذه اللحظة، الفرق بين المفهوم الديني لدى الغرب وما يقابله لدى الشرق، حيث تراهم يعرضون لما يرد من مصطلحات دينية في خطاب الرئيس الأميركي أو تصريحاته على أنه إحياء للنزعة الدينية المحافظة في السياسة الأميركية، بل يذهب بعضهم أبعد من ذلك بالقول إن السياسة الخارجية الأميركية ليست سوى انعكاس لهذه الرؤية، وأن رد فعل المسلمين الغاضبين من أميركا والداعين لقيام الدولة الدينية سببه هذه الرؤية الدينية الأميركية الجديدة. وفي هذا جهل ما بعده جهل، ومحاولة يائسة لتبرير الإرهاب الذي أخذ يعصف بالدول الخليجية.
لا نختلف مع هؤلاء حول اللغة الدينية التي يصطبغ الخطاب السياسي الأميركي بها، بل لعل هذا الأسلوب الديني المحافظ أحد أسباب تصويت المسلمين الأميركيين له في الانتخابات الأخيرة، كما أن الرئيس الأميركي لا يخفي تدينه الشخصي خاصة بعد تجربته الخاصة مع الكحول، والرئيس السابق كلينتون عكف على إعادة قراءة الإنجيل واتخذ له مرشداً روحياً لاستعادة التوازن الذاتي بعد مشكلته المشهورة. لكن ما يجب علينا أن نعرفه أن هذا التدين - خلافاً لما لدى المسلمين- لا يتعدى الجانب الشخصي، بل إن الرئيس الأميركي نفسه لم يستمع لرسالة البابا الخاصة بعدم شن حرب على العراق عام 2004، ولو كانت الرؤية الدينية الشخصية هي التي تتحكم لاختلف الأمر.
التدين الشخصي والمحافظ سمة بارزة في الحياة الأميركية مقارنة بأوروبا، والعملة الأميركية تحمل شعار إيمانهم بالله وثقتهم به سبحانه، وهذا ما لا يحدث في أوروبا، ونزعة المعاداة لكل ما هو ديني في أوروبا حتى لو كانت المسيحية نفسها، لا تجدها لدى الأميركيين، لكن هل يستطيع الرئيس الأميركي أو الكونغرس مثلاً أن يتخذ أي قرار وفقاً لمرجعية دينية؟ بمعنى هل يمكن الاستشهاد بالإنجيل أو آيات منه كديباجة لأي قرار سياسي؟ هل يجرؤ الرئيس الأميركي أن يبرر تحرير العراق دينياً؟ هل كانت هناك مرجعية دينية يوم اتخذ قرار تحرير الكويت؟ هل تقدم كلينتون حين قرر قصف يوغسلافيا وإنقاذ مسلمي كوسوفو وغيرهم، بآيات من الإنجيل؟ كلا ثم كلا. لقد كانت جميعها قرارات سياسية صرفة وفقاً لاستراتيجية خاصة بالولايات المتحدة الأميركية الدولة، هذه الاستراتيجية التي تصنعها مؤسسة الحكم، لا الحاكم الأميركي ذاته.
هل يستطيع الرئيس الأميركي أن يعلن رفضه للعلمانية مثلاً، قد يتعلل البعض بقراره حول منع زواج الشواذ، لكن للعلم أن معظم الأميركيين يؤيدون فكرة العائلة كأساس لحياة زوجية سليمة، لكن إيمانهم بالحرية التي يصنعها القانون تلزمهم بالتعايش مع هذه الظاهرة التي تخص أفراداً معينين دون أن يعني ذلك الموافقة الشعبية. هل يستطيع الأميركي العادي حتى وإن كان متديناً أن يمنع ابنته البالغة سن الثامنة عشرة من ممارسة حياتها كما تشاء؟ لا يستطيع لأن القانون يمنعه.
هل يستطيع الرئيس الأميركي بدافع من تدينه أن يصدر قراراً بمنع الخمر أو القمار في لاس فيغاس أو منع الناس من التعري مثلاً؟ أو أن يمنع الحانات لأنه لا يشرب الخمر؟ أو أن يمنع العلاقات الجنسية قبل الزواج؟ كلا، لا يستطيع حتى لو أراد ذلك، الرئيس الأميركي علماني في المقام الأول، وتدينه الشخصي لا ينعكس على صناعة القرارات المختلفة خاصة السياسة الخارجية. فضلاً عن هذا كله يدعو إلى نشر قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. يا ليت يدعو المتدينون عندنا إلى مثل هذه القيم، بل نراهم على العكس يدعون إلى العنف والقتل وإرهاب الآخرين.