مشهد الانتخابات وصناديق الاقتراع والمقترعين وتنافس الأحزاب واللوائح والدعايات الانتخابية والدعايات المضادة وضمان حصة للنساء في المقاعد، يبعث الفرح في القلب. ويجد المرء ما يعتز به وهو يتابع الجهود التي بذلها رئيس جمهورية ورئيس حكومة «فرضهما» احتلال الدولة العظمى الوحيدة في الكون، كي ينجحا في الانتخاب. وهو شعور يرقى الى قناعة عقلانية راسخة حين نفكر بإفضائه الى تداول للسلطة غير مألوف في العراق وفي معظم العالم العربي.
بل يمكن، اليوم، الحسم بأمور ثلاثة على الأقل: أن العراقيين استحقوا بالدم انتخاباتهم، وأبدوا الشجاعة التي ينبغي أن تتوافر في صاحب الرأي الذي يريد لرأيه أن يساهم في رسم مستقبله، وأن ما شهدناه في العراق المحتل متقدم على ما نعرف في البلدان العربية المستقلة والمحررة، وأن معدل الاقبال المحترم، رغم كل شيء، على التصويت جعل من يقاوم الوضع الجديد أقل شرعية وأقرب، بالتالي، الى الارهاب منه الى المقاومة.
هذا لا يعني أن العراق دخل فردوس الديموقراطية، على ما يقول بعض المتحمسين متسرّعين. كذلك لا يفوتنا أن العدد في مجتمع منقسم أهلياً ليس كل شيء. لكن ما حصل، استفاد منه بوش أم لم يستفد، ليس تفصيلاً بسيطاً أو عادياً. وحصوله في ظل الاحتلال، وفي ظل شروط سياسية تحتمل الكثير من الشك والطعن، لا تكفي لجعله تفصيلاً بسيطاً وعادياً. فهو يخضع لنفس المنطق الذي خضع له سقوط صدام: نعم، أسقطه الاحتلال، وأسقطته حرب لا تملك التغطية الدولية ولا الحجج الصادقة والنزيهة. مع هذا، فقد ولى صدام ونظامه. وأيضاً، مع هذا، مع الاحتلال والطائفية وتهديدات الزرقاوي وأعماله الوحشية، جرت انتخابات نيابية.
يلوح، إذاً، كأننا في سباق بين تيارين: واحد يتقدم، بأخطاء وعثرات وادعاءات وأكاذيب، فيطيح ديكتاتوراً ويقيم انتخابات عامة، ولاحقاً ينشئ دستوراً. وآخر يلهث وراء ما يفعله الأول، سلاحه القتل، و«خطابه» إنكار الواقع بدءاً بسقوط صدام وانتهاءً باجراء انتخابات.
وفي تكوين التيار الأول، وفي منطق اشتغاله، تقيم صعوبة يعرفها جيداً العراقيون والملمّون بالعراق. ذاك أن بلداً وسمت تاريخَه الحديث الانقلاباتُ العسكرية والاستبدادات السلطوية، فيما قاعه يمور بعناصر التوتر الأهلي، لا ينجرّ بسهولة الى حياة ديموقراطية وثقافة ليبرالية. فكيف حين نضيف السياسات الأميركية وحربها ونوايانا حيالها، الفعلي منها والخرافي؟
أما في تكوين التيار الثاني ومنطق اشتغاله فتقيم الاستحالة المحضة. ذاك أن النموذج الاستبدادي، بوصفه النقيض للنموذج الديموقراطي، بلغ ذروة اكتماله مع صدام. وحين يُقال «ذروة» لا يكون المقصود درجة القمع وحدها، إذ هناك أيضاً تتويج المسيرة التي كانت الانقلابات العسكرية المتتالية تشير اليها. فما أن تمكن الطاغية المخلوع من تحويل الطغيان نظاماً مستقراً، حتى غدت الحروب الخارجية والمقابر الجماعية أداته الوحيدة في إدامة نظامه واستقراره.
وفي المعنى هذا، ليس مصادفاً عجز «المعارضة» عن توليد طاقة إيجابية ملموسة تشي بنظام بديل من الاحتلال. وليس مصادفاً، بالتالي، اعتمادها العنف الارهابي والأعمى في «مقاومة» النظام الذي أطاح صدام وجاء بالانتخاب.
وقصارى القول ان العراق اليوم مختبر للاختيار بين الصعب والمستحيل: الصعب الذي يأتينا به الغير تبعاً لعجزنا، والمستحيل الذي يأتي به استبدادنا علينا وعلى العالم. وكان «من الأفضل» للجميع لو أن في الوسع الاختيار، كأنْ يقوم الرهان على انتقال(؟) تدريجي وهادىء يقي العراقيين الحرب ويخفف درجة الصعوبة في «البديل الديموقراطي»(؟). الا أن الواقع العنيد يفرض نفسه، فيخيّر الجميع بين سياسة مجتزأة ومشوّهة، وبين الزرقاوي الذي هو الحطام الوحيد الممكن للعهد الصدامي، أو أنه يخيّرنا، في صياغة أخرى، بين الانتخابات في ظل الاحتلال، والتذرّع بالاحتلال لمعارضة انتخابات لا يقوم دليل واحد على أننا اعتمدناها، لا في العراق ولا في غيره، بمحض إراداتنا الذاتية.