فشلت النظرية الماركسية في التطبيق، لكنها ما زالت المختبر العلمي الذي يجري فيه التحليل السياسي. كان اعتماد التفسير الاجتماعي، على اساس اقتصادي وطبقي، صالحا لفهم ورصد تطور المجتمعات، ودور الصراعات والتحالفات السياسية في هذا التطور. تبنى الفكر السياسي والاجتماعي، على اليمين واليسار عموما، طرائق الماركسية في التحليل والتفسير، ورفض نتائجها التي توصلت اليها، من حيث حتمية الثورة الدموية بعد اكتمال نضج الرأسمالية.
غير أن التحليل السياسي للظاهرة الدينية يلقى صعوبة جمة، لأن ماركس لم يول الظاهرة الاهتمام الكافي، بسبب انحسار دور الدين في السياسة والمجتمع منذ بداية عصر التنوير في أوروبا. واكتفت الماركسية بادراج المؤسسة الدينية كحليفة للميركانتيلية التجارية والرأسمالية الصناعية.
السبب الآخر لصعوبة تحليل وتفسير الظاهرة الدينية، لا سيما في المجتمع العربي، كون تسييسها يستهدف الوصول الى السلطة والامساك بالحكم، ويضع الحوار الطبقي والمعاش الاجتماعي والاقتصادي في خلفية الاهتمام.
وهكذا، حصلت الظاهرة الترابية في السودان على مال عربي وفير، بحجة أسلمة الجنوب، وليس لتحسين وتطوير الشمال. الإخوان المسلمون في مصر من كبار المتولين والتجار. مشايخ الانقاذ في الجزائر ركبوا المرسيدس، وحالفوا الشرائح المتعطلة والخاملة في المجتمع، ولم يحاولوا استقطاب الطبقة العاملة والمنتجة.
العرب اليوم أمام زلزال سياسي كبير. تسيس الظاهرة الدينية وفرز المجتمع على اساس طائفي، أديا الى وصول الشيعة الى السلطة في العراق. طريقة الوصول تستعصي على التحليل الماركسي الطبقي والاقتصادي. من هنا، لا بد للمحلل والمراقب السياسي أن يتعرض الى الاتهام بالانحياز الطائفي، عندما يضطر الى قراءة اللوحة الاجتماعية والسياسية، من خلال واقعها الميداني، واقعها الديني الطائفي والمذهبي الراهن في المجتمع العربي.
قلب الاحتلال المعادلة الساسية والاجتماعية في مجتمع عربي كبير. نفى عروبة العراق، وسلم زعماء الشيعة العربية اللاعروبيين السلطة عبر «شرعية» الاقتراع. الوصول الى السلطة لا يعني الامساك بالحكم. لا بد من الانتظار قليلا لرؤية ما إذا كان هؤلاء الزعماء قادرين على حكم مجتمع عربي وسلخه عن عروبته، اعتمادا على قوة الاحتلال من جهة، وعلى عواطفهم الباطنية (الفارسية) من جهة.
لا شك أن أميركا تكرر في العراق الخطأ الذي ارتكبته قبل 25 سنة في إيران، عندما سلمت السلطة والحكم الى المؤسسة الشيعية الخمينية. إذا كان الغرض الاميركي آنذاك شهر السيف الديني في وجه السوفييت الذين اخترقوا القوس الاسلامي بالاقتراب من الخليج النفطي عبر افغانستان، فالغرض الاميركي الراهن هو الانتقام لـ 11 سبتمبر من الاغلبية السنية في العالم العربي التي «تأسلمت»، متبنية ثقافة الكراهية والعداء لأميركا خصوصا، وللغرب عموما.
معظم التحليل السياسي العربي يقع في منطق التشنج عندما يوغل في تحميل أميركا مسؤولية كل ما يحدث للسنة. فهذه الطائفة الضخمة، أنظمةً ومجتمعاتٍ، تتحمل أيضا المسؤولية الأكبر عما يحدث وما قد يحدث لها من نكسات. في ذروة أزمة السنة في العراق، ها هي السنة السودانية، مثلا، تضطر الى توقيع اتفاق صلح وسلام يرفع يدها عن السلطة في الجنوب، ويشرك الجنوب (العلماني) في سلطتها وحكمها للشمال العربي والاسلامي.
أشعر بالحزن لاستعمالي منطق التحليل الطائفي. لقد شرحت الاسباب، وأضيف ان الكاتب والمراقب السياسي لا يستطيع ان ينفصل عن الواقع الميداني، ليقع في أسر التنظير الانشائي الذي كنت وما زلت ضده.
بهذا المنطق، أقول إن السنة في سورية تشارك في السلطة والادارة، لكنها خسرت الحكم منذ أربعين سنة. وهي في لبنان خسرت الحكم، وبقيت في السلطة من خلال ميثاقها الوفاقي مع الموارنة. ثم عادت فتعرضت مع الموارنة الى التهميش في السلطة والحكم، لصالح الشيعة (العلمانية) المتحالفة مع سورية، ولصالح الشيعة الجهادية المتحالفة مع إيران. بل ها هي السنّة المصرية تتعرض، في سلطتها وحكمها، الى متاعب في التعامل مع الأقلية القبطية التي اتجهت الى المغالاة في مطالبها، ردا على غلو السنة في عصبيتها الدينية، الأمر الذي لم تعرفه مصر منذ دخولها الإسلام. ليس غريبا، مع تآكل سلطة السنة العربية، أن يمتد الاحتجاج القبطي المدعوم أميركيا ليطالب يوما بمنطقة حكم ذاتي.
وها هي المؤسسات السنية الحاكمة في المغرب العربي تتعرض بدورها إلى متاعب مع الأقليات العرقية (الأمازيغية في المغرب والجزائر والسوداء في موريتانيا)، هذه الأقليات التي أحيا الاستعمار ذاكرتها القومية، فقدمتها على انتمائها السني.
لقد حملت السنة لواء العروبة، ضمنا وظاهرا، في مسيرتها الإسلامية عبر التاريخ. وكان نضالها القاسم المشترك الأعظم ضد الاستعمار التاريخي بكل أشكاله الدينية والعلمانية. وهي التي أسست بواكير الانظمة العربية الاستقلالية والوحدوية، فلماذا تعرضت سلطتها الى هذه النكسات في التعامل مع الأقليات المذهبية والعرقية في مجتمعاتها؟
لقد شكلت السنة طبقة الحكم منذ فجر الإسلام. لكنها ركزت على شخص الخليفة الحاكم المطلق أكثر مما ركزت على عدالة المؤسسة الحاكمة. لم يكن الفكر السني متحررا بما فيه الكفاية. حتى المعتزلة كانوا يمثلون النخبة المثقفة المتعالية، وحتى الفلسفة الرشدية كانت ضد العامة. نعم، حمى اغلاق الاجتهاد السنة القرآنية والنبوية من الاغراق في التأويل الذي أوصل الى البدع.
لكن انغلاق الاجتهاد ألغى ثقافة الحوار والانفتاح مع المذاهب الأخرى المعترف بها سنيا، وفي مقدمتها الشيعة لتخفيف مصابها الأليم في آل البيت، ولإشراكها في حكم الدولة الإسلامية التاريخية.
المرجعيات السنية والشيعية لا تتبادلان التكفير. لكن دوغمائية الطبقة السنية الحاكمة في تلك الدولة جعلت الشيعة تشكل طبقة المعارضة باستمرار. لفد تركز الخلاف أساسا على أحقية آل البيت في الحكم والإمامة عند الشيعة، فيما كانت السنة أكثر تحررا في اختيار الحاكم. كانت السنة أشد طاعة له، فيما كانت الشيعة أكثر إلحاحا على معصومية أئمتها، واعتقادا بعودتهم، الى درجة ان الخميني في مؤلفه «ولاية الفقيه» فلسف إمكانية تعيين نائب للإمام الغائب، وطبقه على نفسه، ثم فرضه بعد موته.
ماتت الفوارق السنية والشيعية مع التسامح الديني الموغل في الزمن، لكنها أفاقت مع الهبتين السلفيتين الشيعية والسنية، لتربي في مواقع الهوة والانهدام بينهما كالعراق، عصبية مجنونة تمثلت في نظام صدام (السني) وانتفاضات الشيعة الدموية. وها هي تتجدد مع الحكم الشيعي الذي تريد أميركا فرضه على العراق، لنفي عروبته أساسا.
مع ذلك، من الإنصاف للسنة القول ان مؤسساتها الحداثية الحاكمة انشغلت بصراعات داخلها لا تمت الى الدين بصلة. أدى الصراع الآيديولوجي والطبقي، المدني والعسكري، الى استنزاف السنة بالسنة، أو بالأقليات. وكان من نتائج هذه الصراعات خسارة السنة الحكم هنا، وانحسار سلطتها هناك، وتحول مجتمعاتها رويدا رويدا الى الانصات والاستسلام لردات سنية دينية، تقليدية ومتطرفة، شديدة الانغلاق.
كأي زلزال سياسي، لا بد من الانتظار لمعرفة صدى ونتائج آثاره وموجاته في الدوائر القريبة والبعيدة عنه. ليست المرة الأولى التي ينسلخ العراق فيها عن عروبته قسرا بالشعوبية القديمة والحديثة، كان العراق دائما يستعيد وجهه العربي.
لم أقل كل ما يمكن أن يقال في هذه الفسحة الضيقة، عن السنة تاريخاً ومعاصرةً، إنما في أزمة السلطة السنية العربية، لا بد لأنظمتها ومجتمعاتها من البحث عن حلول، على صعيد الفكر والممارسة. إذا كانت الوحدة السياسية مستحيلة، فلعل تهوية النظام السني تكسبه ثقة شعبية واجتماعية أكبر. ولعل وحدة الثقافة كافية، بتحريرها من الرقابة والوصاية والقيود، لمواجهة كل محاولات نفي وتغريب العروبة، وسلخ قطر بعد قطر عنها، تمزيقا لأوصال عالم عربي، أكثر مما هو ممزق ومبعثر دينيا وسياسيا.