العنوان يذكرني بطرفة كانت بين المغفور لها زوجتي وبيني. فعندما تعرفت اليها، ودبّت المحبة بيننا، كنا نتجول في المدينة معاً، وكنت أجهل أصول الأدب ومنها الافساح أمام المرأة للتقدم على الرجل عند ولوج الأبواب. وكانت هي، كلما ارتكبت هفوة على هذا الصعيد، تنهيني فاعتذر. وذات يوم كنا ندخل صالة السينما فاقتحمت الباب قبلها، فاذا بها تمسك بذراعي وتسديرني لمواجهتها، وتخاطبني مؤنبة: ألم تسمع بمقولة بالانكليزية مؤداها "أن المرأة أولاً حتى الى جهنم؟". فأجبتها للتو مداعباً: "في قاموسي المرأة أولاً الى جهنم فقط". فضحكت وغفرت لي ذنبي، رحمها الله واسكنها فسيح جنانه.
كان هذا في بداية عهدي مع المرأة. وبعد أكثر من ثلاثين سنة من الحياة الرغيدة الى جانب شريكة حياتي، دخلت عليها ذات يوم وكانت على فراش المرض فبادرتني بالقول: "أريد ان أعتنق الاسلام" (وكانت، رحمها الله، مسيحية). فسألتها: "لماذا؟ هل فكرت في الأمر ملياً؟ فأكّدت لي رغبتها. فعاودت السؤال: "هل أنت مقتنعة بما أنت مقدمة عليه؟". فأفحمتني بالجواب اذ قالت بصوت خفيض: "أريد ان أدفن معك في قبر واحد". وأنا منذ لحظة الفراق أعيش على موعد معها. كأنما لزمت أدب المرور فمضت قبلي.
أعز مخلوقات الله على نفسي ثلاث من النساء: أمي وزوجتي وابنتي. فَضلَهُنّ علي لا يقدر بثمن. ولا أملك من الثمن إلا الوفاء.
استذكر اليوم علاقتي بالمرأة في الوقت الذي تطالب الهيئات النسائية في لبنان بحصة (كوتا) للمرأة من المقاعد النيابية في قانون الانتخاب.
شاركت أخيراً في لقاء عقد لمناقشة مشروع القانون، فنهضت احدى السيدات الكريمات لتدلي برأيها، فطالبت بتخصيص المرأة بمقاعد نيابية بنسبة معينة من المجموع. تحدثت مع السيدة الكريمة بعد ذلك فقلت: التخصيص في توزيع المقاعد النيابية يجعل النساء بمثابة طائفة جديدة. فالطوائف هي التي تتقاسم المقاعد النيابية. ونحن في غنى عن استحداث طائفة جديدة. ثم ان تطبيق القاعدة عملياً، فيما لو تقررت حصة معينة للمرأة، لن يكون بالأمر الهين. فالسؤال يبقى: كيف توزع المقاعد النسائية بين الطوائف والمناطق؟ ونصحت للسيدة الكريمة بالمطالبة بتمثيل عادل ليس عبر النص على حصة في القانون وانما عبر موقف سياسي تعلنه الهيئات النسائية مجتمعة، فتطالب بأن يكون للمرأة نصيب في كل لائحة انتخابية، وتعلن مقاطعتها أي لائحة لاتتجاوب مع هذا المطلب.
هذه المسألة تستحضر قضية المساواة بين المرأة والرجل.
نحن من القائلين بأن المطلوب ليس المساواة وانما العدالة وتحديداً تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل. فالمساواة الكاملة غير واردة عملياً، نظراً الى الفوارق الطبيعية بين الجنسين.
فحتى في المجتمعات الاكثر تقدما في العالم، لا تتمتع المرأة بالمساواة مع الرجل في كثير من المجالات. فحتى في اميركا وفرنسا وبريطانيا والمانيا، مثلا، تُعرف المرأة بعائلة زوجها، ويتكنى الاولاد بعائلة الاب وليس الأم (باستثناء اميركا الجنوبية حيث يحمل الابناء اسمي عائلتي الأب والأم).
ثم ليس ثمة مساواة بين الرجل والمرأة في كثير من الانشطة الرياضية، فتنأى المرأة عن كثير منها بسبب الفوارق في الخصوصيات البدنية بطبيعة الحال.
الى ذلك، ليس ثمة مساواة حقيقية حتى في السياسة. فلم تشغل المرأة موقع الرئاسة في اميركا مرة واحدة في تاريخ الولايات المتحدة. وكذلك الامر في سائر بلدان الغرب مع بعض الاستثناءات، من مثل مارغريت تاتشر في بريطانيا، ولكن هذه الحالات كانت في واقع الامر من قبيل الاستثناءات التي تثبت القاعدة. وقد قيل في مارغريت تاتشر انها "الرجل" الوحيد في حكومة بريطانيا، بمعنى قوة الارادة التي كانت تتميز بها. وكذلك قيل في غولدا مائير عندما كانت رئيسة لحكومة اسرائيل. وقيل ذلك عن انديرا غاندي في الهند.
ومن ينظر في بنى المجالس التشريعية في ديموقراطيات العالم الاكثر تقدما، يرى ان اكثرية الاعضاء من الذكور مع وجوه بارزة من النساء. كذلك الامر في الامم المتحدة وسائر المنظمات الدولية. فأكثر اعضاء الهيئة العمومية للأمم المتحدة من ممثلي أقطار الدنيا هم من الرجال مع وجود قلة من النسوة. وتاريخ لبنان الحديث يزدان بأسماء ساطعة من النسوة اللواتي شغلن مواقع اجتماعية وثقافية وأدبية متميزة. وقد هُزِمتُ شخصيا في المعركة الانتخابية عام 2000 امام وجه نسائي متألق. فما أسفت.
الموضوع ليس هو المساواة بين الرجل والمرأة، بل تكافؤ الفرص بينهما. بين النساء طاقات سياسية وفكرية وعلمية واجتماعية لا حدود لها. فلا يجوز في حال من الاحوال الحؤول بين المرأة ذات الكفاءة وتحقيق ذاتها في خدمة مجتمعها او وطنها او الانسانية. وهذا يفترض ازالة كل الحواجز او القيود من طريقها، وبالتالي كل أشكال التمييز ضدها في القوانين او الانظمة او حتى الاعراف. وهذا يستتبع اتاحة الفرص كاملة امام المرأة لتتبوأ أرفع المواقع، سواء في السلطة الاشتراعية أو في السلطة الاجرائية أو في السلطة القضائية، وكذلك في الادارة العامة ومؤسسات القطاع الخاص.
اننا في هذه الدعوة لا نتوخى مجرد الاقتداء بالغرب، بل نستلهم مبدأ العدالة المجردة. فالغرب ليس في نظرنا قدوة صالحة في التعاطي مع المرأة. فقد بلغت بعض المجتمعات الغربية مبلغا من التهتك يشرّع السِفاح. وقد حال الاتحاد الاوروبي بين تركيا وسنّ قانون بتحريم السِفاح تحت طائلة الامتناع عن مباشرة محادثات انضمام تركيا الى الاتحاد. هكذا أضحى ما يعتبر من المحظورات في مفاهيمنا في عداد الحريات العامة التي هي من صلب القيم الحضارية التي يباهى بها زورا في بعض المجتمعات الاكثر تقدما.
ولا يسعنا، ونحن في معرض الحديث عن حقوق المرأة، الا ان نعرض لعينة من دعابات الرجل ونوادره في هذا الصدد. فتبقى البسمة لغة التواصل بين المرأة والرجل.
قيل ان اللغة العربية تختزن تحيزا ضد الجنس اللطيف. فتأنيث لفظة النائب، اي ممثل الشعب في المجلس التشريعي، هو "النائبة"، والنائبة هي النازلة او المصيبة، وتأنيث "القاضي" الذي يحكم بالعدل بين الناس، هو "القاضية"، والقاضية هي الموت والمنية. وتأنيث "المُصيب" اي الذي يحسن القرار او الاختيار، هو "المصيبة"، والمصيبة طارئ مشؤوم او فاجع يغشى المرء في حياته. وتأنيث "الحي"، اي من ينعم بالحياة، هو "الحية" اي الافعى السامة. فهل هذا يستبطن تحاملا في لغتنا؟
وقيل، من باب التنكيت، ان جمعية من الذكور تشكلت يوما للدفاع عن حقوق الرجل في مقارعة حقوق المرأة. وفي اللقاء الاول الذي عقدته القى رئيس الجمعية خطابا استفزازيا ختمه بتحدي الحضور قائلا: من منكم لا يهاب زوجته فليقف على قدميه. فاذا بواحد فقط ينتصب واقفا. وعندما سأله رئيس الجمع عن سر بطولته، قال: زوجتي هي التي اشارت علي بما افعل.
بالعودة الى جوهر القضية، نخلص الى القول: ان من حق المرأة ان تطالب بالعدالة، والعدالة ليست في المساواة بل في تكافؤ الفرص. وللمرأة، ان توافرت شروط تكافؤ الفرص، ان تنافس الرجل في السياسة سواء على مستوى النيابة، او المشاركة في الحكم، او حتى الرئاسة. اما المطالبة بحصة قانونية مخصصة لها "كوتا"، فهذا تسليم بما لا يليق بالمرأة ان تسلّم به، اي قصورها او عجزها عن المنافسة المشروعة الحرة مع الرجل، منافسة الند للند، على قاعدة الكفاءة والمزايا والامكانات الذاتية والمكتسبة. مع العلم ان المرأة هي التي ستفوز في المعركة الانتخابية حتما اذا ما جاء اختيار الناس، كما هو في حالات كثيرة، بناء على صور المرشحين الملصقة على الجدران والمدلاة من الشرفات. فمهما تكن طلعة المرشح بهية، فصورة المرشحة من الحسان ستكون ابهى.
اما اختراق واقع قائم، يهيمن فيه الذكور على الساحة السياسية، فلا يكون بالحصص القانونية وانما بموقف سياسي تلتقي عليه الهيئات النسائية عبر المطالبة بأن يكون للمرأة نصيب مرموق في كل لائحة انتخابية تحت طائلة مقاطعة اللائحة التي لا تتجاوب. ويبقى مدى انصاف المرأة مؤشرا على مدى رقي المجتمع حضاريا.