مرت الذكري الستون لتحرير معسكر اوشفيتز، وسط عاصفة ثلجية لم تمنع العديد من قادة العالم من الانحناء امام ذكري واحدة من علامات العار في تاريخ البشرية. تذكّر الهول النازي والتعلّم من دروسه، والوعد بأن ما جري خلال الحرب العالمية الثانية يجب ان لا يتكرر، هو الحد الادني كي يستعيد الانسان حقه في انسانيته التي دمرها الوحش النازي في عنصريته ضد اليهود وغيرهم من الشعوب التي اعتبرها دونية.
تفاهة الشر بحسب تعبير حنة ارندت، يجب ان تخلق ضوابط اخلاقية وسياسية كي لا تتكرر المحرقة، وكي يعي العالم ان العنصرية تقود الانسان الي الوحشية.
لا نستطيع امام الهول الوحشي الذي شاهدناه علي الشاشات الصغيرة في اوروبا وامريكا ان نبقي محايدين، الضحية تصرخ وتئن طلبا للحد الادني الانساني، والجلاد اصم يقتل الاطفال والنساء والرجال لا لذنب، بل لأنهم ينتمون الي دين او عرق آخر. استعادت اوروبا خلال الحرب العالمية الثانية مكبوتها العنصري كله، من المذبحة الكبري ضد سكان امريكا الاصليين الي ما لا آخر له، وقام النازي ببلورة عقيدته العنصرية عن تفوق العرق الآري، ودونية العرق السامي، وصبها في هول معسكرات الابادة والمحارق.
والمأساة ان الانسان لم يتعلم شيئا من التاريخ او من الذاكرة، من راوندا الي البوسنة، لا يزال الوحش العنصري يفترس العالم، ويهدده في كلّ لحظة. وما الدعوات الراهنة الي الحروب بين الحضارات والأديان، وما جنون القوة الامريكي الا اشارات الي ان الهاوية التي فتحها النازي لا تزال تهدد بابتلاع العالم من جديد.
نستطيع ان نتوقف طويلا عند الاستغلال الصهيوني للمحرقة النازية من اجل ايجاد تبريرات اخلاقية للجريمة المستمرة في فلسطين منذ النكبة عام 1948، لكن ليس هذا موضوعي اليوم. المسألة التي اريد التوقف عندها هي الغياب العربي شبه الكامل عن هذه الذكري. هذا الغياب يجسد قبولا ضمنيا بالرواية الصهيونية، وتخليا عن مسؤولية اخلاقية لا يحق لأحد التخلي عنها حتي ولو كان يعيش مأساة كبري فرضها قيام الدولة العبرية.
تجلّي هذا الموقف الساذج خلال ما سمي بقضية روجيه غارودي في العالم العربي. فلقد اندفع الكثير من المثقفين والحكام العرب الي تبني لعبة غارودي عن عدد الضحايا اليهود خلال المحرقة، كأن تخفيض العدد او التنكر للمحرقة يفيد القضية الفلسطينية في شيء.
لا اريد العودة الي ذلك النقاش الذي اسال الكثير من الحبر، لكني اريد التوقف عند مسألتين:
1 ـ الرفض الاخلاقي للدخول في لعبة التنكر للهولوكست، وهي لعبة تتبناها في العادة اوساط ثقافية وسياسية نازية جديدة في اوروبا. ان ناكري الهولوكست الاوروبيين هم مجموعة من العنصريين الذين يريدون العودة الي اللغة القومية العنصرية، وليس من المستبعد ان يكون العرب والمسلمون في اوروبا هم ضحيتهم الجديدة.
2 ـ التأكيد علي كون المشروع الصهيوني مشروعا كولونياليا. فالفكرة الصهيونية كما اسسها تيودور هرتزل في اواخر القرن التاسع عشر كانت جزءا من تصور استعماري تقليدي، يبحث عن حليف قوي وجده في بريطانيا عند صدور وعد بلفور عام 1917. ومنذ البداية وحتي ما بعد تأسيس الدولة الاسرائيلية، تصرف قادة المشروع القومي اليهودي علي هذا الاساس. لا علاقة اذن بين المشروع الصهيوني والهولوكوست. تصويت الامم المتحدة تأييدا لقرار التقسيم كان بدوافع سياسية واستعمارية، وليس بدوافع انسانية. صحيح ان اسرائيل لم تتوقف عن استغلال الهولوكست للظهور بمظهر الضحية، وصحيح ايضا ان بن غوريون اراد من محاكمة ايخمان ان تتحول الي تبرير اخلاقي متأخر للدولة، وصحيح ان المقاول الدولي للهولوكوست السيد ايلي فيزيل لا يتوقف عن بث سمومه العنصرية ضد الفلسطينيين، وصحيح اخيرا ان كلود لانزمان صاحب فيلم الهولوكست انتهي به الزمن الي اخراج فيلم يمجد الجيش الاسرائيلي. لكن كلّ هذا يجب ان لا يحجب الحقيقة الكولونيالية للمشروع الصهيوني.
ان القبول الضمني بالافتراض الصهيوني الكاذب بأن اسرائيل نشأت كرد فعل علي الهولوكست، لا يحجب فقط الطبيعة الكولونيالية للدولة، بل يعطيها شرعية انسانية علي الاقل، وهذا ما لا يعيه، ربما، دعاة انكار الهولوكست في العالم العربي.
المسألة يجب ان تقرأ في اطارها التاريخي، اوروبا في اجماعها الحالي علي ادانة المحرقة لا تتضامن مع الضحية اليهودية فقط، بل تعيد الاعتبار لقيمها الاخلاقية المســـتندة الي عصـــر التنوير الذي حاول النازي الاطاحة به.
في هذا الاطار فان الفلسطينيين هم اكثر شعوب العالم مصلحة في ادانة المحرقة النازية لأنهم كانوا ضحيتها الثانية. واذا كان من الضروري استخلاص دروس الهولوكست، فان درسه الاول هو كيف يجب ان لا تتحول الضحية الي جلاد. اسرائيل قامت علي خيانة هذا الدرس، اذ سعت منذ اللحظة الاولي الي عكس ذلك، مستندة الي العماء الذي ضرب اوروبا والعالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. هكذا تم تمرير جريمة 1948 ، كأنها غسل للأيدي الاوروبية الملوثة، مثلما يتم اليوم تمرير جرائم الاحتلال في وصفها جزءا من الحرب علي الارهاب.
ارهقنا هذا الكذب الدولي الذي يجد في كل يوم تبريرا لطرد العالم العربي من التاريخ، لهذا السبب يجب ان نحمل لواء الدفاع عن الحقيقة، ونساهم في صوغ مقياس اخلاقي واحد في العالم. لذا ربما لن يجد ضحايا الهولوكست من يتضامن معهم اكثر من ضحايا الظلم والقمع في العالم، ولعل ضحية الضحية هي الأولي بالتضامن، كي يكون نضالها من اجل العدالة والحرية شهادة علي ان العدالة لا تتجزأ وان انين الضحايا منذ ستين عاما يجد اليوم صداه في ارض فلسطين، حيث يناضل سكان البلاد الاصليون من اجل حقهم في الحياة.