قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لقادة حركة "حماس" ان أمامهم طريقين لا ثالث لهم للانضمام الى النظام السياسي: الاول الانخراط في اللعبة الديموقراطية والاحتكام الى ارادة الناخبين في الانتخابات. والثاني الحرب الاهلية الداخلية التي لن يربحها احد بل سيخسرها الفلسطينيون جميعا. على هذه القاعدة دخلت حركة "حماس" المعركة الانتخابية في عشر بلديات في قطاع غزة، ففازت في سبع منها، وهي خلقت بذلك معطى سياسيا جديدا في الساحة الفلسطينية، التي لم تعقد مشاركة "حماس" في الاستحقاقات الانتخابية منذ اتفاقات اوسلو. وبذلك تكون "حماس" قد مهدت لجولة انتخابات بلدية اخرى بعد ستين يوما، ولاستحقاق الانتخابات الاشتراعية، بعد نحو خمسة اشهر من الان. ولكن السؤال يبقى: كيف وصلت "حماس" الى تجميع هذه القوة الشعبية، اقله في قطاع غزة؟
للاجابة عن هذا السؤال، لا بد من النظر اولا الى الفشل الكبير الذي منيت به سياسات السلطة الفلسطينية على اكثر من مستوى (ممارسات على الارض، فساد، خيارات غير واضحة للسلام او للحرب). فأحد العوامل الاساسية لتنامي قوة الحركة في السنوات الاخيرة، تتحمل مسؤوليته حركة "فتح" وقيادات السلطة الفلسطينية التي تسلمت سلطاتها في الاراضي المحتلة عام 1994، واندلاع الانتفاضة الثانية.
ولعل مشاهد الثروات الفاحشة التي تنامت كالفطر في اوساط قيادات السلطة السياسية والامنية، ومظاهر الفساد البادية للعيان قد لعبت الدور الاكبر الى جانب بلوغ التسوية مع اسرائيل مأزقها التاريخي بحلول عام 2000، ووصول الشارع الفلسطيني الى اقتناع عملي مفاده ان اسرائيل لن تخرج من الاراضي المحتلة بالتفاوض، بل باستمرار الضغط العسكري اسوة بلبنان في منتصف عام 2000. ولكن العنصر الاهم الذي تستمد منه "حماس" قوتها هو نظام الخدمات الاجتماعية الواسع النطاق، والماكينة التي تدير هذاالقطاع فتدخل كل بيت فلسطيني على اكثر من مستوى، من التعليم، الى الطبابة، فتأمين الغذاء، والملبس، والعمل، وصولا الى المساعدات المالية المباشرة. بمعنى آخر، ان نظام الخدمات الهائل لحركة "حماس" الذي قام كسلطة رديفة للسلطة الفلسطينية الرسمية التي كان ينخرها الفساد، شكل الرافعة الاهم في ربط الحركة السياسية والعسكريةـ بالواقع الشعبي المستاء من ضعف السلطة الوطنية وتشتتها، ومن الدموية الاسرائيلية المنفلتة من عقالها. هكذا استطاعت "حماس" ان تفرض اجندتها على الواقع الفلسطيني، وحمت خيارها المسلح طوال هذه المدة.
واليوم تبدو الصورة مختلفة بعض الشيء. فالخيار العسكري الى تراجع، بفعل بلوغ خيار عسكرة الانتفاضة نقطة تحول كبيرة. فالانتصار العسكري على اسرائيل مستحيل راهنا، وطاقة المجتمع الفلسطيني على التحمل بلغت الخط الاحمر، والاعتماد على العالم العربي بات وهما، فضلا عن ان الدعم الايراني شكّل نقطة ضعف حيال الداخل بمقدار ما يشكل تهمة من الخارج. من هنا يصل مشروع "حماس" الى الامتحان الكبير. فهل تنخرط الحركة في العالم السياسي وتقبل بنزع سلاحها، ووقف الانتفاضة المسلحة؟ وهناك مسألة النظام الاجتماعي الرديف للسلطة الذي يفوقها انتشارا او تغلغلا في المجتمع الفلسطيني، فهل تستطيع "حماس" ان تتنازل عن شبكتها الاجتماعية (وهي الاهم) لمصلحة مشروع الدولة الفلسطينية العتيدة؟
انها اسئلة مطروحة بقوة. وهي الاسئلة نفسها المطروحة اليوم في لبنان في شأن تغيير "حزب الله" خياره الاستراتيجي بتسليم سلاحه الى الدولة اللبنانية، واجراء مراجعة شاملة تتعلق بمنظومته الاجتماعية الهائلة الحجم مقارنة بأي منظومة غير رسمية في لبنان. ومعلوم مدى النفوذ الذي تمنحه هذه المنظومة للحزب في الانتخابات وغير الانتخابات، حتى لتبدو الصورة كأننا بازاء مشروع دولة ضمن الدولة اكثر مما هو مشروع حزب من ضمن التركيبة، اسوة بغيره من الاحزاب.
يبدو اننا في كل مكان من هذه المنطقة على ابواب مرحلة المراجعات الكبرى!