بقي الملف الإيراني على حيويته بدليل أن كل أحداث الشهور الماضية الكبرى لم تستطع أن تزيحه من قائمة الأجندة الدولية الساخنة، فيما توالت التساؤلات الساخنة حوله بدءا من الهواجس المتعلقة بهجوم أميركي أو إسرائيلي على المنشآت الإيرانية، ونهاية بإمكانية الحكم على أن أداء إيران في هذا الملف استجاب لاستحقاقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
من جانبي أرى أن اللحظة لم تحن بعد لجهة إصدار حكم يقول إن التعاون الإيراني النووي مثال للشفافية. أما عن النتائج التي يمكن أن تترتب على هجوم أميركي أو إسرائيلي على المنشآت الإيرانية المشتبه في أنها تنتج وقودا أو أسلحة نووية، فالإشارة تجدر هنا إلى أننا حاليا أمام عملية دبلوماسية تدور بين إيران والاتحاد الأوروبي، تعهد فيها الإيرانيون بتجميد كل نشاطات إعادة التجهيز أو التخصيب، مع أنهم ما زالوا يصرون على أن التخصيب حق من حقوقهم في إطار الأهداف السلمية لاستخدام الطاقة النووية، بموجب اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية. وقد قبلت إيران التفتيش على منشآتها، فيما لم نر حتى الآن أية مواد نووية يمكن استخدامها في صناعة الأسلحة، مثلما لم نر أية جهود ترمي إلى إنتاج مثل تلك الأسلحة، ومن هنا يجيء الحكم بأننا نحقق بعض التقدم. ومن هنا أيضا يذهب تقديري إلى أنه وبدلا عن الحديث عن الضربات العسكرية، على الولايات المتحدة أن تضع ثقلها كله خلف هذه العملية، وأعني التفاوض بين الاتحاد الأوروبي وإيران، من أجل دعمها، لأنها لا يمكن أن تنجح بدون الدعم الأميركي.
أما حول ما يمكن أن تحققه ضربة عسكرية، فالإيرانيون يمتلكون الآن التكنولوجيا والمعرفة لصنع قنبلة نووية، ومن هنا فسيكون أثر مثل هذه الضربة دفن النشاط تحت الأرض، أي تحويله من مؤسسات علنية إلى منشآت سرية، وحينها لن نستطيع مراقبته، وبذلك نكون قد دفعنا إيران إلى التخلي عن التزاماتها أمام الهيئة الدولية لمكافحة انتشار الأسلحة النووية، بل نكون قد أجبرناها على التعامل مع إنتاج القنبلة النووية باعتباره أولويتها الوطنية الأولى.
ولنا أن نذكر هنا أن الضربة الإسرائيلية للمفاعل العراقي لم تكن ناجحة، لأن ذلك المفاعل كان من المنشآت الخاضعة لمراقبة الهيئة الدولية، فيما لم يتباطأ العراق بعد تلك الضربة عن الشروع في برنامج نووي سري، أكبر حجما وأقوى اندفاعا. ولذلك فإن الدبلوماسية والحوار هما الأداتان الواقعيتان الوحيدتان مع مثل هذه الحالات.
وذلك لا يلغي بالطبع حيثية التعاون الإيراني في هذا الملف، لأنه مطلوب وحيوي، وأقول هنا إنهم يسيرون على الطريق الصحيح. ولنا أن نذكر هنا أيضا أنه كانت هناك فترة لم نكن نحصل فيها على المعلومات والمعاينات التي نطالب بها، ولكن هذا الوضع تغير حاليا، فأصبحت إيران تتعاون معنا في الوقت الراهن، وما نحتاج إليه هو الشفافية المتواصلة والدائمة، وإني لأشدد عليها: الشفافية، ثم الشفافية ثم الشفافية، لأنها وحدها الكفيلة بتوليد الثقة وترسيخها. وأقول بذلك وأنا أعلم بمقارنات ومقاربات تذهب إلى المقارنة بين الحالة الإيرانية والحالة العراقية، ويورد أصحاب تلك المقاربات أنه وأثناء الاستعدادات للحرب العراقية، وكما ظهر في الحوارات التي دارت داخل الأمم المتحدة، كانت الشكوك تنتاب العالم في أعمال ونوايا صدام حسين، لأن هناك «نمطا موثقا من الخداع»، جعل العالم يتصور أن الاحتمال الاسوأ هو الأقرب إلى الواقع، ومن هنا يتساءلون ما إذا كان الوقت مواتيا أو مبكرا للتفريق بين الحالتين أو القطع بوجود نمط من الشفافية مع الحالة الإيرانية، وردي في إيجاز هنا هو أنه من المبكر جدا أن نقول بحكم قاطع لصالح تلك الشفافية التي سبق وأن قلت بضرورتها. ولذلك، ومع أننا لم نضع أيدينا بعد على ما يمكن أن نسميه الخداع الإيراني، إلا أنني لا يمكن أن أقول إنهم شيدوا نمطا راسخا من الشفافية.