تموج منطقتنا بكثير من الأفكار والتيارات‏,‏ وترتفع فيها حرارة الحوار إلي درجة الحدة‏,‏ وأصبح الإعلامي طرفا مشاركا بالرأي والتعليق‏,‏ فوسائل الاتصالات باتت سريعة‏,‏ جعلت الجميع يصل إليك أينما تكن لمعرفة كيف تفكر وما رؤيتك فيما يطرحه الآخرون ويثار علي بساط البحث‏.‏

وتجعلنا حيوية المشاركة‏,‏ مثل الكتاب المفتوح‏,‏ فعندما توجد في أي ندوة تصبح عرضة للمساءلة‏,‏ ولذلك فعندما تتصدي بالرأي لأي قضية‏,‏ فمن الضروري أن تستند إلي حقائق موضوعية‏,‏ وإيمان حقيقي بما تقول‏.‏

ولقد أتيح لي أن أشارك في ثلاث ندوات وعدد من الحوارات التليفزيونية خلال الأسبوع الماضي‏,‏ رأيت بينها جميعا خيطا يربط بين كل ما يطرح علي الصعيد المحلي والإقليمي‏,‏ وهذا الخيط هو أن هذه الحوارات يجب أن تكون هادفة ولا تنزلق نحو لغة تنافق الشارع‏,‏ فغاياتنا جميعا هي ترشيد ما يقال وتقديم أطروحات جادة‏.‏

طرح مثلا بإلحاح شديد‏,‏ كيف نتصرف أمام الضغوط الخارجية في قضايا الإصلاح المحلي‏,‏ والتي وصلت إلي أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تتدخل في مؤتمر صحفي علني للمطالبة بالإفراج عن نائب برلماني مصري‏,‏ وجهت إليه اتهامات قضائية‏,‏ ولخصت رأيي في أن مصر أكبر من أن تقع تحت الضغوط‏,‏ وإنه لاينبغي أن نعتبر ما يطرح بمثابة ضغوط‏,‏ ولكنه تساؤلات علنية‏,‏ وعلينا أن نعاملها في حدودها المعلنة بتوضيح الحقائق التي نعرفها‏,‏ وهي أن هناك تناسبا طرديا بين اتجاه المجتمع إلي الديمقراطية الواسعة‏,‏ وبين مؤسساته القضائية والرقابية القادرة علي حمايته من الفساد والفوضي في آن واحد‏,‏ وعلينا احترام هذه المؤسسات أو السلطات عندما تتصرف في حدود اختصاصاتها‏,‏ وفي هذا الإطار لم تكن القضية قضية شخص واحد‏,‏ ولن تكون الأولي أو الأخيرة‏.‏

وكان أبلغ رد أيضا ذلك الحوار السياسي الخلاق بين الأحزاب المصرية‏,‏ الذي وصل إلي توافق سياسي‏,‏ قلما يصل إليه بلد بين حزب حاكم قوي وأحزاب معارضة لاتزال في طور التشكل السياسي‏,‏ لصياغة أجندة سياسية للمرحلة القادمة‏,‏ و كشفت التطورات المتلاحقة عن قرارات مهمة لتفعيل الحياة السياسية‏,‏ أبرزها هو الانتقال إلي مرحلة جديدة في أسلوب إنتخاب رئيس الجمهورية‏,‏ بما يعني أننا أصبحنا في لحظة حاسمة من الإصلاح السياسي في مصر‏,‏ وهي بدورها ستؤدي إلي إنعاش الأحزاب‏,‏ وظهور برنامج سياسي جديد يتخلق من رحم الاستقرار الذي عاشته مصر في السنوات الماضية‏,‏ لنبني عليه دستورا جديدا وحياة سياسية سوف تسمح بالمشاركة الكبيرة للجميع‏.‏

وأعود إلي ثلاث ندوات‏,‏ اشتركت فيها‏,‏ الأولي كانت في عمان ـ الأردن‏,‏ حول الإعلام والحكومة الرشيدة أو الحاكمية‏MediaandgoodGovernance,‏ بحضور أكثر من‏13‏ منظمة عالمية تعمل في مجال الإعلام‏,‏ وخطورة الإعلام‏,‏ أن تنظيمه في المرحلة القادمة في كل مجتمعاتنا العربية يحتاج إلي رؤية سياسية واقتصادية وإعلامية معا‏,‏ ومازالت امكانياتنا محدودة لإدارة هذا التحول‏.‏

وعندما ندرس نأخذ بعدا ونتناسي باقي الأبعاد‏,‏ فكل المؤسسات الإعلامية تجب إدارتها كمؤسسة اقتصادية باعتبارها تقدم خدمة ذات طبيعة خاصة أو سياسية لأنها تشكل الرأي العام‏,‏ وتصنع القرار السياسي بل الحكومة‏,‏ فتأثيرها جد خطير‏,‏ وأصبح لا بديل عن إصلاح تلك المؤسسات بمعايير عالمية‏,‏ والتأخر في ذلك يهدد قدرات الدولة ويعوق تطورها‏,‏ وقد أدرك كل المشاركين أن تعددية الإعلام الحر والمستقل ترتبط ارتباطا لا يقبل التجزئة مع الحكم الرشيد‏,‏ بحيث لا يمكن وجود طرف دون آخر‏,‏ مع اتفاق علي أن الحوكمة أو الإدارة الرشيدة لن يتم إنجازها دون برامج ملموسة مرتبطة بسقف زمني هدفها الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي‏,‏ أي أن الإعلام هو صنو الإصلاح السياسي والاقتصادي‏.‏

ولم أبتعد كثيرا في حوار عمان مع المشاركين العرب والأجانب‏,‏ عن مؤتمر آخر في مكتبة الإسكندرية‏,‏ ولكن هذه المرة مع الشباب من أساتذة الجامعات والمهنيين‏,‏ ممن تقل أعمارهم عن‏35‏ عاما‏,‏ جاءوا ليشاركوا في حوار حول كيفية الإصلاح بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية‏,‏ حتي لا يتركوا الحوار للكبار وحدهم‏,‏ وكان حوار مكتبة الإسكندرية مع الشباب إيجابيا‏,‏ وأعطي أبعادا وأفكارا‏,‏ وم

شروعات‏,‏ يمكن تنفيذها في المجتمع المدني‏,‏ والحياة السياسية والاقتصادية‏,‏ ولأول مرة لا أسمع مطالبات من الشباب للحكومة أو للكبار‏,‏ ولكنهم كانوا يتساءلون ويتحاورون حول دورهم‏,‏ وما الممكن الذي يقومون به سواء فرديا أم جماعيا حتي ينجح الإصلاح‏,‏ فقد شعروا بأن ما يحدث في مصر الآن هو تطور حقيقي وإصلاح شامل في المجالين السياسي والأقتصادي‏,‏ فأدركت أن الرسالة قد وصلت للشباب قبل الكبار‏,‏ وهو أن الإصلاح لا تصنعه الحكومة وحدها‏,‏ أو مؤسسات عامة أو خاصة أو حتي مجتمع مدني‏,‏ فهو يقوم به الكل لخدمة الكل‏,‏ ولذلك علينا أن نبدأ بأنفسنا ولا ننتظر غيرنا وساعتها ستدور العجلة‏,‏ ولن نحتاج إلي أن نحفز بعضنا البعض حتي ينجح الإصلاح‏,‏ ولذلك وجدت كل مجموعة من الشباب تقوم بصياغة برامج عمل تقوم هي بتنفيذها‏,‏ لإشاعة روح الإصلاح‏.‏

ولم ينته نفس يوم الحوار في مكتبة الإسكندرية‏,‏ حتي كنت في نهاية اليوم داخل المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية في التجمع الخامس‏,‏ الذي نظمه اللواء أحمد فخر‏,‏ حول اتفاقيات المناطق الصناعية المؤهلة التي عرفت بـ الكويز‏Qiz‏ بمشاركة اقتصاديين وسياسيين مصريين وأردنيين‏,‏ وقد كنت محددا عندما قلت إن هذه الاتفاقية أخذت وقتا وزمنا طويلا من البحث والفحص من مصر‏,‏ وأنها مازالت رهن الاختبارات للنيات الإسرائيلية‏,‏ ماذا سوف تفعل مع الفلسطينيين ومع السوريين‏,‏ فهي ليست اتفاقية مستقلة عما يحدث في المنطقة من تطورات‏,‏ كما أنها ليست اقتصادية فقط‏,‏ بل سياسية وتضع المصالح الإستراتيجية قبل الحسابات الاقتصادية‏.‏

أخذت نفسا عميقا بعد المناقشات والحوارات‏,‏ وأدركت صعوبة التفكير السياسي وتشابكاته‏,‏ وأحسست بنعمة الحرية وتأثيرها السحري علي الإصلاحات‏,‏ وصحة المسارات‏.‏