خيرالله خيرالله

بعض المنطق يبدو اكثر من ضروري هذه الايام. المنطق يقول ان طارق عزيز لم يمتلك يوما اي سلطة تنفيذية في عراق- صدّام حسين. لم يكن طارق عزيز سوى عراقي آمن بمبادئ حزب البعث ووصل الى ما وصل اليه بفضل الحزب الذي حوّله صدّام الى حزب عائلي يتقدم فيه ولداه وصهراه حسين وصدّام كامل في مرحلة معينة استمرت حتى العام 1995، على كل الحزبيين الآخرين ايا تكن اهميتهم وايا يكن تاريخ نضالهم السياسي.
لم يتمكن طارق عزيز يوما من ايصال اي رسالة ذات اهمية الى صدّام حسين. كل المسؤولين العرب والاجانب الذين عرفوه يقولون انه كان مجرد واجهة للنظام وانه عندما كان يطلب منه نقل رسالة ما، كان جوابه انه يفضل استخدام وسيلة اخرى، غير شخصه، في حال كانت الرسالة تتضمن اخبارا غير سارة لصدّام. كان يخاف حتى المطالبة بالتوسط لاطلاق نجله الاكبر حين اعتقل الاخير في التسعينات ووجهت اليه تهمة quot;سرقة آثارquot;، في حين ان الامر كان متعلقا باستعادة quot;الاثاثquot; الذي اودعه في شقة استأجرها. وقد شاء سكرتير صدّام عبد حمود تصفية حساب ما مع نجل طارق عزيز فحول التهمة من سرقة أثاثquot; الى سرقة آثارquot;، علما بانه لم تكن هناك سرقة اصلا.
باختصار، لم يكن طارق عزيز في اي يوم من الايام شخصا مهما على الصعيد العراقي. كان بعثيا قديما لم يحل كونه مسيحيا من الوصول الى موقع وزير الاعلام، ثم وزير الخارجية ونائب لرئيس مجلس الوزراء. مرة اخرى، لم يتجرأ طارق عزيز في يوم من الايام على نقل رسالة ذات مغزى سياسي معين الى صدّام حسين. الدليل على ذلك انه عندما شرح له وزير الخارجية الاميركي جيمس بايكر مطلع العام 1991 ما الذي سيحل بالعراق في حال لم ينسحب من الكويت من دون قيد او شرط، رفض طارق عزيز تسلم الرسالة الموجهة الى الرئيس العراقي، وقتذاك. تضمنت الرسالة تفاصيل ما ستفعله اميركا في حال لم يتخذ صدّام قرارا واضحا بسحب جيشه من الاراضي الكويتية فورا من دون قيد او شرط. تذرع طارق عزيز في الاجتماع الذي عقده مع بايكر في احدى قاعات فندق quot;انتركونتيننتال- جنيفquot; بانه لا يستطيع ان ينقل الى رئيسه مثل هذا النوع من الرسائل. والواقع انه لم يكن يمتلك الجرأة على فعل ذلك. فبقيت الرسالة في الفندق الى حدّ الآن.
لماذا اذا الحكم الجديد باعدام طارق عزيز ولماذا الخلط بينه وبين سكرتير صدّام ووزير الداخلية السابق سعدون شاكر؟ هل لانه مسيحي اوّلا والمطلوب التأكيد ان لا مكان للمسيحيين في العراق الجديد؟ هل لانه تصدى فعلا للاحزاب الدينية ثانيا؟ ام ان السبب الحقيقي ان طارق عزيز ساهم ثالثا واخيرا في الدفاع عن العراق، على الجبهة الديبلوماسية، في اثناء الحرب مع ايران بين العامين 1980 و1988؟
يمكن القول ان مضمون الاسئلة الثلاثة المطروحة يشكل اسبابا كافية لهذه الحملة على طارق عزيز الذي لم يجد ولن يجد من يدافع عنه غير افراد عائلته وبعض من بقي لديهم حد ادنى من الشجاعة التي تسمح بتسمية الاشياء باسمائها والقول انه جاء وقت تصفية الحساب مع كل عراقي ساهم في حرب الاعوام الثمانية. هذا لا يمنع من الاعتراف بان القرار الذي اتخذه صدّام حسين في حينه والقاضي بشن الحرب على ايران كان قرارا خاطئا وينم عن غباء سياسي لا حدود له. ولكن يبقى ان قرار الحرب كان قرارا اتخذه شخص واحد وحيد في مرحلة سيطرته على مقدرات البلاد... ولا ذنب للذين رضخوا للقرار باعتبارهم موظفين في الدولة. ولم يكن طارق عزيز سوى موظف بعثي تكمن اهميته في انه يتكلم الانكليزية ويقدم للعالم صورة شبه حضارية عن النظام.
الاهم من ذلك كله، ان الحكم غير النهائي بإعدام طارق عزيز يؤكد الفشل الاميركي في العراق. ويؤكد خصوصا ان ادارة بوش الابن لم تفعل شيئا سوى تقديم العراق على صحن من فضة الى إيران. ما نشهده اليوم، في عهد باراك اوباما، هو تأكيد جديد لقدرة إيران على ان تفعل ما تشاء في العراق. قضية طارق عزيز ليست سوى دليل صغير على مدى اتساع النفوذ الايراني في العراق. الدليل الاكبر ان ايران قررت عدم الاخذ بنتائج الانتخابات النيابية الاخيرة التي حلت فيها quot;القائمة العراقيةquot; برئاسة الدكتور اياد علاّوي في الطليعة. وضع النظام الايراني فيتو على علاّوي وها هو السيد نوري المالكي في طريقه الى تشكيل حكومة جديدة ستبصر النور يوما ما عندما تجد طهران انها دجّنت المالكي ما فيه الكفاية.
لم تتضمن الوثائق الاميركية التي نشرها موقع quot;ويكي ليكسquot; جديدا. لا اسرار حقيقية في الوثائق سوى انها تؤكد فظاعة ما ارتكبه الجيش الاميركي في العراق والتدخل الايراني المباشر على كل المستويات. ما قد يكون مفيدا من نشر الوثائق اكتشاف العرب، كل العرب، ان هناك توازنا مختلفا في المنطقة وان بعد الذي حصل في العراق، ليس مستغربا ان تتصرف ايران بالطريقة التي تتصرف بها داخل كل دولة عربية. يفترض في العرب بدل التلهي في محاولة اكتشاف اسباب ما يحدث في لبنان او البحرين او اليمن او الكويت... او فلسطين ان يعوا اخيرا ان الزلزال العراقي لا يزال في بدايته لا اكثر ولا اقلّ وانه بات هناك خلل كبير في التوازنات الاقليمية لمصلحة ايران لا اكثر ولا اقل!