شريف عبدالغني

طوال حكم صدام حسين، كان طارق عزيز هو الوجه المدني والدبلوماسي للنظام. مجموعة عسكر يتميز عنهم بالقدرة على إيصال صوت العراق للعالم الخارجي، حيث مثل بلاده في المحافل الدولية المختلفة. وخلال حرب الخليج الثانية 1991، حصد الرجل إعجاب الشارع العربي خاصة خلال لقاءاته مع جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي، فليس سراً أن عموم المواطنين العرب البسطاء كانوا متعاطفين مع عراق صدام حسين.
وعُرف الرجل -الدارس للأدب الإنجليزي- باهتمامه بالثقافة والإعلام وهي الملفات التي تولاها لعدة سنوات، ولم يكن له دور واضح في الشؤون الأمنية أو الدينية في بلاده، وكثيرون ممن عرفوه عن قرب -وبينهم الدكتور مصطفى الفقي سفير مصر السابق في النمسا والقيادي بالحزب الوطني الحاكم في القاهرة- أشادوا به وبأدبه الجم وثقافته الواسعة، وكلهم أجمعوا على أنه رجل وطني من الطراز الأول سواء اتفقت معه أو اختلفت.
ولأن الأيام دوّارة وغدر الزمن قد يأتي في لحظة، فقد وجد الرجل صورته ضمن أوراق اللعب الـ laquo;55raquo; التي أعدتها قوات الاحتلال الأميركي، والتي دخلت بغداد ويحمل كل جندي منها على فوهة مدفعه أحد حكام العراق الجدد!
قاومت كثيرا رغبة ملحّة في الكتابة عن البُعد الطائفي والأجندة الخارجية وروح الانتقام التي يحملها هؤلاء laquo;السادةraquo; الذين تربوا في أحضان أجهزة المخابرات الشرقية والغربية وكل من يدفع. لكن كنت أتراجع تحت مبرر أن الأمر مجرد تنفيس منهم عن الظلم الذي ذاقه العراقيون بشكل عام من الديكتاتورية، وأن المؤشرات تقول إنه بعد هدوء العاصفة سيلتفتون إلى إصلاح بلدهم وبناء وطن ديمقراطي تعددي يحترم الآخر ولا يلفظه، باعتبار أن من ذاق الظلم يكون أكثر الناس حرصا على العدل. لكن ظني خاب.
ذهبت إلى العراق بعد الغزو مباشرة، وشاهدت بأم عيني كيف بدأت ميليشيات الأحزاب الوافدة عمليات السرقة والنهب لكل ما يقع تحت أيديهم، وكيف استولوا على المباني الحكومية والأندية الاجتماعية ومساكن المسؤولين السابقين وحولوها بقوة السلاح إلى مقرات لهم. لم يتوقف الأمر عن هذا الحد، فقد انتقلوا لما هو أسوأ، وراحوا يسرقون موارد العراق الاستراتيجية وأولها البترول والآثار، بما يؤكد أنهم laquo;هجامونraquo; بطبعهم.
قصوا شريط العراق الجديد باجتثاث laquo;البعثيينraquo; من كل المواقع، رغم أنهم يعلمون أن كثيرين انضموا للحزب تحت ضغوط، وقصروا أجهزة الشرطة والجيش على عناصرهم، وشاركوا في كل الجرائم التي ارتكبها المحتلون بحق العراقيين، ولم يحققوا حتى ما قالوا إنه مضمون في جيبهم وهو الديمقراطية على النسق الأميركي، وها هم طوال أشهر عديدة يفشلون في تشكيل حكومة، وفي كل مرة يختلفون حول الحصص الطائفية. إنهم ليسوا سادة العراق، فلم يعد هناك عراق موحد، هم سادة laquo;البصرةraquo; والجنوب الذين هجموا على بغداد ليضموها إلى سيادتهم، وليتركوا سادة laquo;أربيلraquo; و laquo;السليمانيةraquo; يهنؤون بالمنطقة الكردية في تكريس للطائفية والعرقية. أعادوا العراق إلى ما قبل قيام الدولة.
لكن كله في كفة وتبقى في الكفة الأخرى روح الانتقام المستعرة في نفوسهم والتي تدخلهم في خندق laquo;البرابرةraquo;. لم يدركوا أن النظام السابق انتهى فعليا منذ وقع في خطيئة غزو الكويت، وأن كل السنوات التي تلت مجرد لحظات تؤدي إلى النهاية المحتومة وأبرز تجلياتها لفّ الحبل على عنق التمثال الشهير في ميدان الفردوس وإسقاطه. لكن أفعالهم جعلت كثيرين بعد ذلك يترحمون على أيام صدام، بل ويبدي الرجل الذي شارك في إسقاط التمثال بالغ ندمه وأسفه!
شهوتهم في احتساء كؤوس الدماء لم تتوقف، قتل عشوائي لمواطنين عاديين لا يؤيدونهم، خطف أطفال وطلب فدية لإطلاق سراحهم. حينما كنت في بغداد هجموا على ابنة الرئيس الأسبق عبدالسلام عارف وقتلوها مع زوجها وخطفوا ابنهما. اعتداءات ومهازل أخلاقية ضد كل من يعتقلونه في سجونهم. ووصلت ذروة الطائفية في مشهد الإعدام laquo;الأسطوريraquo; لصدام حسين، كان مكشوف الوجه، صلبا، رابط الجأش، ساخرا من هتافاتهم الطائفية البغيضة وشتائمهم المقززة وهو مكبل اليدين laquo;ها هي المرجلةraquo;، بينما هم أشباح مذعورة يغطون وجوههم.
صدام الذي صوّروه كشخص همجي بدائي، لم يفعل مثلهم مع سابقيه، فبعد انقلاب laquo;البعثraquo; على حكم الرئيس عبدالرحمن عارف، خصص له صدام فيلاّ أنيقة في بغداد، ومعاشا شهريا، ولم ينكر هذا الأمر العقيد قيس عارف، نجل الرئيس الأسبق، الذي التقيته في نفس الفيلا بالعاصمة العراقية. ولما تولى صدام السلطة منفردا بعد إزاحة الرئيس أحمد حسن البكر، لم يسُقه إلى المشنقة، بل تركه يعيش في أمان.
حولوا صدام إلى laquo;شهيدraquo; يوم نحروه صبيحة laquo;عيد الأضحىraquo;، وهذا الوصف اتفق عليه علماء الأمة وبينهم مشيخة الأزهر الشريف، وزادوا بتصرفاتهم الحمقاء من شعبيته في العالم العربي. رقصوا حول الجثمان.. تسابقوا على تجرع دمائه، لكنهم لم يرتووا واستحلوا سكرة هذه الكؤوس، فكرروها مع أخيه برزان التكريتي، ثم مع عواد البندر وطه ياسين رمضان وعلي حسن المجيد. وبعد فترة بيات وجدوا أن فشلهم في الاتفاق على تشكيل الحكومة ربما سببه أنهم لم يشربوا منذ فترة في صحتهم أي كأس مدممة، فجاء الدور على طارق عزيز وسعدون شاكر وعبد حمود بتهمة laquo;تصفية الأحزاب الدينيةraquo; بعد محاولة الاغتيال التي نجا منها صدام حسين عام 1982 في قرية laquo;الدجيلraquo;، وهي نفس التهمة التي أعدم بسبها صدام. وبالله عليكم واقعة محاولة الاغتيال ثابتة باعتراف منفذها laquo;حزب الدعوةraquo; وبممولها الدولة القريبة، فدلوني على طريقة تعامل نظام حكم في الدنيا مع من حاولوا اغتيال رأس الدولة، هل سيلاحقهم أم سيأخذهم بالأحضان، والمفارقة أن طارق عزيز لم يكن له دور أمني، كما لم يتدخل في الشؤون الدينية إطلاقا -بحسب نجله زياد- في إشارة إلى ديانتهم المسيحية. لكن يبدو أن حزب الدعوة laquo;سيد البصرة وبغداد والكوفةraquo; تذكر أنه فشل في قتل عزيز نفسه عند مدخل جامعة المستنصرية عام 1980، فوجدها فرصة أن ينفذ الآن ما فشل فيه سابقا مع رجل هرم بلغ الرابعة والسبعين من عمره ويعاني أمراضاً شتى، وهو ما أدركه الدبلوماسي العتيد بقوله لمحاميه إنه laquo;سيُقتل ولن يطلقوا سراحهraquo;.
إذا كان عزيز سلم نفسه للأميركان ظنا منه أنه بعيد عن أي مساءلة، كونه في الأساس رجلا دبلوماسيا تولى الملف الخارجي لبلده، فقد أخطأ، لكنه لم يخطئ حينما عاش وطنيا مخلصا، وسيموت رجلا عنده مبدأ حتى لو اختلفت معه، وقناعات لا يبدلها بغض النظر عن صحتها، بعدما رفض بيع صدام حسين ميتا وهو في سجونهم، وتأكيده أن التاريخ وحده كفيل بإنصاف صدام.
عزيز سيبقى عزيزا في الذاكرة العربية، والتي ستلفظ بكل تأكيد أصحاب الوجوه الطائفية الكريهة!!