يمر الواقع العربي ... وليس العالم العربي ، بأزمة وجود قد توصلهم الى مرحلة الإنقراض التي تعرض لها الهنود الحمر في أمريكا الشمالية... إن لم يكن العرب قد أصبحوا كواقع في قائمة المنقرضين سريريا !

وعندما نقول الواقع العربي ... وليس العالم العربي ، فلأن كلمة العالم : تعني وجود شيء راسخ وثابت وهو مالم يعد موجودا كدليل على الإنقراض الذي تعرض له العالم العربي قبل إنقراض ماتبقى من واقعهم الذي يصارع من أجل البقاء بدون الأدوات الضرورية للحياة ... كالذي يحاول البقاء غاطسا في أعماق مياه البحر وليس معه أنبوبة أوكسجين ، أو كالذي يريد أن يعبر البحر سابحا وهو لا يجيد السباحة ولا يتزود بأدوات السلامة .. فيغرق في كلا الحالتين .

والإنقراض لا يعني مطلقا الفناء بقدر مايعني الغياب كوجود لا قيمة له لذات تحضر جسدا وتغيب عقلا وروحا وقيماً ، وخاصة عندما تكون الذات آدمية .

أما الواقع العربي : فهو صورة لحالة متغيرة نتيجة عوامل خارجية تجرده من ميزة التغيير الإيجابي وتجعله رهينة التغيير القسري الذي لاتمثله إرادة التغيير النابعة من الذات داخل عالم يعلن عن وجوده بمعالمه التي تحدد حدود كيانه وقيمه ومؤسساته التي تمثل كينونته كقاعدة ينطلق منها بملامح حضارية متميزة وبصيرورته التي تجري في فضاءآتها الروح الشاملة والوعي الجمعي نحو هدف ترتقي إليه الخطوات متصاعدة كلما تقدمت في المسير بإتجاهه ودون أن تفقد شيئا من أسس القيم الإنسانية التي لاتستطيع أية أمة أن تشكل عالمها أو تصنع حضارتها دون الإلتزام بتلك القيم ولو في حدودها الدنيا .

وما يحصل للواقع العربي : أنه يخسر عالمه الذي يحتويه سواء كعالم عربي عام .. أو كعوالم صغيرة لكل مكون من مكونات هذا الذي نسميه مجازا بالعالم العربي وهو في حقيقته ليس بعالم واحد حقيقي ولا بعوالم صغيرة حقيقية أيضا ، بقدر مايكون مناخات متعددة تحت رابط لغوي واحد ولكل مناخ حدوده وحواجزه وذلك المناخ هو ما نسميه هنا بالواقع المتغير بإرادة خارجية نتيجة فقدان كل واقع عربي الى الانتماء أولا للقيم الإنسانية كقيم العدالة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ومحاربة الغش والتزوير والفساد والظلم . القيم التي تغذي الشعوب بإرادة التغيير التي تضع الإنسان الخلاق والمبدع في مقدمة الركب كصانع حضارة وليس كمستهلك لها أو عدو .

وكمثال على غياب تلك القيم الإنسانية العظيمة عن الواقع العربي العام أو الخاص : هذا الإستهتار بآدمية الإنسان وحياته وحريته حتى وصل الأمر أن تفقد الأم أمومتها ناهيك عن وحشية الأب ويحزما طفلتيهما بأحزمة ناسفة كي يقتلن أكثر عدد من الناس ويمتن ... ثم يذهبن للجنة التي وعدهن بها فكر دموي آمن به أب فقد الإيمان الحقيقي بالله .. وأم فقدت الإيمان والأمومة.

وليست تلك الحالة إلا مثالا واحدا من آلاف الأمثلة التي تتحفنا بها وسائل التكنلوجيا منذ سنوات كأبشع صور للإنسان الذي تشوهت روحه بفعل ثقافة تتقمص فضيلة الدين ولا تنتمي للدين ولا للإنسانية في شيء.

وقد شاهدنا بشاعة جز الرؤوس وقتل المتعبدين في المساجد والمعابد كأنصع ألأدلة أن العرب يعيشون أسوأ عصور الإنحطاط على مر تاريخهم وأنه مهما كانوا يتعرضون لشيء من الإستعمار أو الإستبداد فإن ذلك لا يبرر هذا السقوط الأخلاقي الذي يدفع المُستعْمَر أو المُستَبَدِّ به كي ينتقم لحريته وكرامته بهذا الإنحطاط القيمي الذي لا يسعى للإنتصار لكرامة ولا لإنتزاع حرية مسلوبة بقدر ما يرسخ حالة الإستعمار و دوامة الإستبداد .

بل أن ماهو أفضع من إرتكاب القتل المقدس في واقع العربي هو هذا الظهور العلني لدعاة القتل والإرهاب عبر وسائل الإعلام والإتصال وفوق المنابر ومن المساجد بصورهم وخطبهم دون أن يخضعوا لقوانين تعاقبهم مما يجعلهم أبطالا في عيون القطعان التي تعاني من متلازمة ستكهولم النفسية ومن عقد الكبت المتعددة وحشو التلقين المؤدلج والموجه الى عقولهم بكثافة ، فيشعرون بالنشوة كلما وجدوا من يدغدغ عقدهم المدفونة ليحرضهم على الموت من أجل وأد الحرية .

وعلى مر التاريخ تثور الشعوب ضد الإستبداد والظلم والإستعمار طمعا في الحرية إلا العرب فإنهم يثورون لكي يستبدلوا طاغية بآخر .. أو لكي يستبدلوا إقطاعيا فاسدا بمشعوذ يتلذذ في سفك دماءهم .

والمحزن : أن الإنقراض العربي في نتائجه لايشبه إنقراض الهنود الحمر الذي كانت نتيجته ولادة أعظم امبراطورية في التاريخ ... لأنه في ظل تغير واقع الهنود الحمر بقي عالم أمريكا يتشكل بدساتيره وقوانينه ليشكل دولة حرة فتحت أبوابها لكل العاشقين للحرية من مبدعي شعوب الدنيا عكس عوالم العرب التي أَسِنَ بعضها بفعل عدم قدرة الناس فيها على صنع التغيير الإيجابي .. وتهجن البعض الآخر بفعل إستقدام أردأ القدرات من بعض الشعوب ليتركوا أثرا غير حضاري على البلدان التي استقدمتهم وبنت حواجز للفصل بين شعوبها وبين القدرات الأكثر قدرة على التأثير الحضاري فتحولت تلك الشعوب المهجنة الى نسخ مشوهة نتيجة التهجين السلبي من جهة ، ونتيجة القسر الفكري المؤدلج الذي يُفرضُ على العقل الجمعي لتلك الشعوب كي تبقى منزوعة الإرادة وسهلة الحشو ولتتحول إرادة أمة أو شعب وسيلة للتدمير داخل الذات بدلا من أن تكون إرادة بناء وحداثة وتطور فيفقد الإنسان قدرته على إستخدام عقله بالطرق المنهجية لإستخدام العقل ليصل الى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي المدمر كأول أسباب الإنقراض .

فلا أنقرض العرب ونما على أنقاضهم عالم أقوى كعالم أمريكا.

ولا إحتفظوا بأصالتهم كشعوب ألمانيا واليابان مثلا... الذين خرجوا من تحت انقاض حروب مدمرة .. فلم ينقرضوا.. ولم يتهجنوا.. ولم يقبعوا في ظلام الماضي ، وإنما صنعوا لهم بالعلم وليس بالخرافة والشعوذة واقعا جديدا بأرادة قوية لا تستسلم ولاتقبل بغير الإنتصار على الظروف وللإنسان والإلتزام بالقيم الحضارية العظيمة.

 

 العالم المتحضر تجاوز مراحل الصراع بسبب الدين أو الفكر أو المذهب وترك هذه الأفخاخ للعرب ليمارس الإبتزاز السياسي عليهم متى ما أرادت سياسات الهيمنة أن تحقق أهدافا استراتيجية لخدمة بلدانها على حساب عوالم عربية متخلفة . ولا لوم على أية قوة أن تمارس هيمنتها ضد بلدان أو شعوب أخرى كي يعيش بلد المهيمن حرا مستقرا ، بل اللوم كله على من يسمح لنفسه أن يكون الضحية .

وبينما تنشغل شعوب العالم في عصر إزدهار العلوم والتكنلوجيا بتطوير أنظمتها وقوانينها وتعليمها وصحة إنسانها ونظافة بيئتها ، نجد أن العرب في عوالمهم التعيسة يقودهم فكر الإنغلاق والكراهية الذي يشغلهم بخصوصيات بعضهم البعض ومنعهم عن ممارسة خياراتهم وبتوافه الأفكار التي تسطح فكر العقول بدلا من الإنشغال بهدر الأموال و الخطط التي تسعى إلى تدمير عقل الإنسان الذي لا يعتبر محورا في فلسفة الدول بقدر ما يكون أداة لسحق نفسه وإرجاعه للوراء كلما سنحت له فرصة أن يتغير أو يحلق في فضاء عالم أصبح قرية صغيره بفعل تقدم العلم وثورة الإتصال الحديثة. 

ويظل هذا العربي على مر عصوره أسير فكر إنعزالي يقنعه أنه الأميز دون أن ينير له عقله الطريق فيرى الحقيقة تتجلى في أبهى صورها وهو يقبع في ذيل قائمة الشعوب الأكثر تخلفا والأقل تمسكا بالقيم الحضارية والإنسانية .

 

وفي كل العالم لايقود فكر الشعوب إلا المفكرون المستنيرون والعلماء الذين قضوا السنين وسط المكتبات والجامعات العلمية الحقيقية ومراكز البحوث، والأدباء الذين يرسمون بخيالهم وجه المستقبل المشرق .

أما العرب فيسلمون عقولهم وأفئدتهم لكل دجال ومشعود ولص كي يجعلوا منهم مسخ إنسان لايقدر على التفكير بعقل متجرد من خرافه ولا يمارس الحياة بوجدان منعتق من بغضاء وقبح وكراهية.

بل أننا نصاب بالدهشة كلما رأينا أستاذا متخرجا من جامعة عربية يقود الإنغلاق والرجوع للوراء كدليل واضح أن مانسميه جامعات عربية لا علاقة له بالعلم بقدر ماتكون مؤسسات مؤدلجة لإنتاج الجهل المؤسس والذي أصبح بفعل الأدلجة جهلا مقدسا يصعب التشكيك فيه حتى وهو ينتج لنا طلائع القتلة بدلا من طلائع العلماء والأدباء والعباقرة.

الجامعات في كل البلدان المتقدمة والمتمدنة : منابر علم وفكر وفلسفة يشع من أزقتها وفصولها النور الذي أضاء للبشرية منذ قرون ومايزال يضيء . 

بينما جامعات العرب تزف لنا العديد من الدكاترة والأكاديميين الذين يثرون واقعهم بالمزيد من كتب الدجل والخداع والخرافة وتزوير حقائق الحاضر ، ناهيك عن حقائق التاريخ وكأن المهمة الرئيسية لبعض جامعات الجهل المؤسس : أن تعلم طلابها الكذب لا أن يتعلموا البحث عن الحقيقة ، وأن تكون شهادة خريج الجامعة : ممهورة بدم قاتل في ثوب أستاذ وليس بتوقيع مدير جامعة مستنير !

الطالب : أيا تكون مدرسته .. صورة لفكر وثقافة تلك المدرسة إلا من إمتلك عقلا متمردا على سائد المسلمات الكاذبة والبائدة والمزورة ... وعندما نشاهد بعض قادة الفكر في واقع العرب وقد أصبحوا دعاة قبح وكراهية فإن ذلك دليل على نوع المدرسة والجامعة التي تعكس حقيقة منهجها لتثبت لنا أن : الجهل المؤسس الذي تمارسه بعض المؤسسات التعليمية العربية هو أحد أهم وأخطر أسباب الإنقراض للوجود العربي في المستقبل الذي أصبح وشيكا !

 

وبينما تصبح السمفونية الموسيقية إبداعا عبقريا تتفاخر بها الشعوب المتحضرة منذ قرون ، والمسرح فنا يرتقي بفكر وذائقة الإنسان ، والحرية حق إلهي مقدس ، فإن الواقع العربي مايزال الإنسان فيه يخضع لوصاية من إنسان آخر يقنعه ويخضعه أن يسمع نياحا كيلا يطرب ، ويمنع عليه أية وسيلة تساعد في تهذيب ذوقه ووجدانه ، ويحرم عليه التصديق بأن الحرية حق مقدس بل أنه يتم إقناعه قسرا أنها حق مقنن يملكه الوصي ويمنحه حسب ما تقتضيه مصلحة وسيطرة ذلك الوصي والتي بكل تأكيد تتعارض مع الحق الالهي المطلق الذي وهبه الخالق لمخلوقه فيأتي مخلوق آخر وينصب نفسه متحدثا بإسم الله الذي لم يفوضه أن يعمل نيابة عنه كوصي على روح مخلوق مثله. والغريب أن الله عزوجل تحاور مع مخلوقه العاصي إبليس ... بينما يرفض هذا الوصي المستأله أن يتحاور مع مخلوق مثله ربما هو أجدر بالحياة منه !

هذا الإستغلال الأسوأ للدين على مر التاريخ حتى من ذلك الذي حدث في عصر الكهنوت الغربي المظلم قبل قرون ، هو ما يقود الانسان العربي الى هذا الإنغماس في مرحلة السقوط الحضاري المفجع كمهدد خطير لعالمه الذي بدأت معالمه تزول ليحل بدلا منه عالم مشوه ( مسخ) لا علاقة له بالعصر الذي ينتمي إليه سوى أنه يستخدم مايوفره العصر من وسائل وأدوات علمية لتوسيع الهوة بينه وبين فكر الشعوب التي تصنع له الوسائل الحضارية.

فتستخدمها الشعوب المتحضرة في التطوير والبناء، ويستخدمها العربي في الهدم والقتل وزرع الأحقاد والكراهية لكل شيء جديد وجميل ومتطور.

وبسبب هذا الإنحطاط الحضاري يفقد العربي المزيد من وجوده حتى يصل الى مرحلة الإنقراض الذي يطل شبحه على العرب ونحن نشهد عصرا تختفي فيه دول تتقسم أوطانها الى طوائف ومكونات متشرذمة ، وتهاجر شعوب تلك البلدان الى كل أصقاع الأرض ، ونشاهد بأم أعيننا تدميرا كامل للمدن التي لم ترتقي يوما الى مستوى المدن العصرية فإذا بالصراع والحروب تعيدها الى زمن العصور الحجرية.

وبدلا من أن نرى الفنانون والرسامون والأدباء والمفكرون والشعراء يعتلون المنابر لإمتاع أذواق الناس بإبداعاتهم الفنية والفكرية والأدبية ، لا نرى سوى مسوخا بشرية تثير القرف والإشمئزاز وتتصدر الصفوف لتقود قطعانا بالآلاف نحو الإنقراض الحقيقي .

ومن يعتقد أن ما يشاهده العالم من صور عن الواقع العربي لاتمثل أغلبية تدين عقولها بالولاء لفكر ظلامي مسيطر فهو واهم يخالف المنطق والحقيقة ، ولا يمكن لتلك الجموع التي تتوالد كل عقد من الزمن وكل مرحلة تغيير عالمية لتعلن رفضها للجديد بالمزيد من الفتك بالإنسان ونشر الفوضى داخل مجتماعتها لولا أنها تمثل واقعا مريضا في عالمه الخاص الذي يفقد وجوده وينقرض داخل العالم الأكبر الذي يتفرج على العرب وينتظر لحظة إعلان موتهم النهائي مختوما ببصمة أصابعهم التي تحترف القتل وتفشل أن تبدع مقطوعة موسيقية لسمفونية تعيد للإنسان الذي تشوه ... شيئا من روحه المختطفه !!