فقدت شقيقتي هذا الأسبوع بعد معاناة طويلة مع المرض والالم، فقدت الأخت وفقدت الام ايضا لانها كانت تحبّني حبا غير مشروط مثل حب الام حيث كنت اقرب سنا لبناتها وأبنائها حيث تزوجت وهي لم تكمل ١٦ عاما وأصبحت اما في عمر ١٧ عاما، وبالرغم من ان افكارنا كانت متباعدة تماما حيث كانت محافظة وشديدة التدين وحيث انني شديد الليبرالية، وكانت تكره امريكا والغرب بشدة وتعتبر ان امريكا والغرب سبب كل بلاوي العرب والمسلمين، وكنت اعتبر ان العرب والمسلمين هما سبب بلاويهم، وكانت لا تشاهد سوى القنوات الدينية وقنوات الطبيخ التليفزيونية وكنت انا أحب ان اشاهد قنوات الأفلام والأغاني والرياضة، وبالرغم من كل ذلك الا اني استمتعت بالسنوات الاخيرة والتي عشت معها في بيتها حيث اضطرتني ظروفي الاقتصادية في امريكا ان اعمل في احدى دول الخليج حيث كانت تعيش شقيقتي. وكنت اعود من العمل واجلس معها يوميا اشاهد قنواتها الدينية وكنت افرح كثيرا عندما كانت تستخدم ريموت التليفزيون لكي تشاهد قناة فتافيت للطبيخ! وكنت اطلق عليها انها وزير الاعلام والرقابة، ولا تسمح لأحد بان يمس الريموت في حضورها، وفِي يوم في الأيام كانت مسافرة في مدينة اخرى فاخذت راحتي وحولت التليفزيون الى القناة الرياضية لكي إشاهد مباراة كرة قدم، وحدث ان احد أحفادها دخل على وضبطني متلبسا بمشاهدة مباراة كرة قدم على تليفزيون اختي فوقف مشدوها قائلا :"ايه ده ؟؟ تليفزيون جدتي بيجيب ماتشات كورة؟؟".

وبالرغم من كل هذا الا اني كنت اجد راحة وهدوء في وجودها حيث افتقدت الحب الغير مشروط منذ ان فقدت أمي، وكانت هي سعيدة بوجودي ايضا وتسال عنى لو تأخرت في العمل او ذهبت الى اي مكان بدون أخبارها.

...

وفِي الشهور الأخيرة عانت معاناة شديدة من المرض والالم، وكنت أشاهدها وأتألم معها وأكره نفسي لعجزي عن عمل اي شيء يذكر لتخفيف الالم عنها ودخلت المستشفى لمدة تقارب الثلاثة أشهر، وفِي خلال ست أسابيع تم اجراء ٦ عمليات جراحية لها، ومع كل عملية كنّا نعتقد ان هذه العملية هي اخر المعاناة وبداية النهاية للألم، ثم يجيء الأطباء ويفاجوننا بعملية اخر، ويمتد الأمل والالم لأسبوع اخر، وفِي النهايات وضح ان الالم يزيد ويقل الأمل، واذكر انني كنت اقضي معها عدة ساعات في غرفة عناية مركزة داخل غرفة العناية المركزة، وكنت البس روب معقم وقفاز معقم لكي يسمحوا لي بالجلوس معها، وقمت بعد الأنابيب والأسلاك الداخلة والخارجة من جسمها وكانت تفوق العشرة عددا، وكانت تتنفس في تلك الليلة بمساعدة جهاز تنفس مساعد، وقاموا بربط يديها بقفاز خاص حتى لا تقوم بازالة جهاز التنفس والذي كان يؤلمها فيما بدا لي، وكذلك القفازات والتي تربط يديها كانت تولمها، وكانت لا تستطيع الكلام فكانت تنظر الى بعطف وامل لكي أساعدها وكنت اخفي دموعي وانا انظر لها محاولا ان أقول لها انني لا أستطيع ان افعل اي شيء؟؟ وظل الحديث بيننا بلغة العيون وبلغة الأمل، حتى قررت ان افعل شيئا على مسؤوليتي، فقمت بازالة القفازات من يديها، فظهرت اخيراً ابتسامه خفيفة على وجهها الجميل والذي أضناه المرض والالم ونظرت الى نظرة شاكرة، فأمسكت بيديها بيدي وبرغم القفاز المعقم في يدي الا اني شعرت بدفء المحبة والمعزة بيننا، وكانت هذه اخر مرة يدور بيننا حوار العيون والالم، وليلة وفاتها كنت عائدا من رحلة عمل بالصين فطلبت مني الاسرة ان احضر فورا للمستشفى، فوصلت بعد منتصف الليل وشاهدتها للمرة الاخيرة وقبلت رأسها وكانت في غيبوبة، وقرر الأطباء وقف اجهزة الحياة الاصطناعية وعرفنا انها النهاية، وفِي خلال ساعات فارقت الحياة وفارقت ايضا المعاناة والالم.

...

والحقيقة ان تجربة معاناة شقيقتي مع المرض والالم جعلتني أفكر كثيرا في الحياة والموت والالم، الموت يهزم الحياة دائماً وبالقطع يهزم الالم ايضا، ولكن الحياة ايضا تنتصر على الموت بالتجديد، عند مولد كل طفل جديد، وعند ظهور كل نبتة جديدة تظهر في قلب الصحراء بعد كل مطر..

وعندما انظر لكل الكواكب حولنا في المجموعة الشمسية ارى العدم والموت، والموت منتصر دائماً حيث لا توجد حياة، الارض هي الكوكب الوحيد الذي استطاعت الحياة هنا في ان تنتصر على الموت. 

هل يمكن ان نتحمّل الالم في سبيل الحياة؟ ام نضحي بالحياة في سبيل التخلص من الالم؟ هل نستسلم للموت امام الالم؟ هل يمكن للأمل ان ينتصر على الالم وعلى الموت؟ 

بعد وفاة شقيقتي هذا الأسبوع انتابتني مشاعر متضاربة، شعور بالحزن الشديد لفقد أخت حبيبة وفقد ام، وشعور بالارتياح لتخلصها من الالم، لانه لم يكن هناك اي وسيلة اخرى لوقف الالم اللعين الا بالترحيب بالموت.

....

رحمها الله وأرجو ان تنال ما سعت اليه طوال حياتها وان تجتمع بمن تحب وأحبت .

...

[email protected]