من الآفات التي يعاني منها العالم العربي منذ انحسار الحقبة الاستعمارية منتصف القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر، آفة التوريث على المستويين السياسي والديني. بدأت هذه الآفة القاتلة في الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية الصورية باحتكار السلطة من قبل قادة الانقلابات العسكرية عبر الأحزاب السياسية الشكلية التي شكلوها كإطارات للديمقراطية المزيفة، والدساتير التي تخلو من مادة تحديد الفترة الرئاسية، وان وجدت مثل هذه المادة في بعض الدساتير يتم التحايل عليها لاحقا ليبقى الرئيس على رأس السلطة مدى الحياة.

قبل الانتفاضات العربية نهاية العام 2010م وبداية العام 2011م، لم تخلو دولة عربية من الحديث عن قضية توريث الحكم لأبناء الحكام. ففي مصر، كان الحديث عن الجهد الذي يبذله "مبارك" لتهيئة نجله الأصغر "جمال" لخلافته في الحكم يتبادله الشعب المصري بشكل شبه يومي رغم عدم قبول كبار قادة الجيش المصري بشكل خفي لمثل هذا التوجه. وفي ليبيا، اعتبر الكثيرون من السياسيين في العالم ان التقارب الليبي مع الغرب كان بمثابة صفقة سياسية تسهل "للقذافي" تحقيق رغبته في تمهيد الطريق لابنه "سيف الإسلام" لخلافته. وفي اليمن، كان "علي عبد الله صالح" يمهد الطريق لنجله "احمد" لخلافته مستحضرا النموذج السوري في التوريث من خلال جملة من الإجراءات والملفات التي كان يمسك بها كالتعيينات والاشراف شبه الكامل على الجيش والأجهزة الأمنية. 

الانتفاضات في هذه الدول الثلاث افشلت محاولة هؤلاء الحكام في تحقيق حلمهم. فـ "مبارك" اضطر الى التخلي عن الحكم تحت وطأة المطالبة الشعبية برحيله، و "صالح" تم ارغامه على التنازل عن الحكم مقابل عدم ملاحقته قانونيا، و "القذافي" لقي حتفه على ايدي الثوار. أما في سوريا فقد تمكن "بشار" من خلافة والده في الحكم بعد تغيير الدستور خصيصا لتحقيق رغبة "حافظ الأسد"، وها هو منذ العام 2011م وحتى اليوم يواجه ثورة اختلط فيها الحابل بالنابل. أما في العراق، فلم يمهل القدر "صدام" الذي كان على وشك تعيين أحد ابنيه "عدي" او "قصي" مساعدا له تمهيدا لتسليمه مقاليد الحكم لاحقا. هذا على المستوى السياسي للحكام الذين كانوا في سدة الحكم وحاولوا توريث أولادهم حكم الشعوب، ولكن القدر لم يمهلهم.

لنعرج الآن الى قادة الأحزاب السياسية-الدينية. ففي العراق ورث "عمار الحكيم" زعامة حزب المجلس الإسلامي الأعلى بعد وفاة والده "عبد العزيز الحكيم" في 2009م الذي ورث بدوره الزعامة من أخيه محمد باقر الحكيم الذي اغتيل في النجف عام 2003م. اما "مقتدى الصدر" زعيم التيار الصدري فقد ورث الزعامة الدينية والسياسية من ابيه المرحوم "محمد الصدر" الذي اغتيل على ايدي زبانية الطاغية "صدام" في عام 1999م، وهو الان يحاول توريث إرثه السياسي الى ابن أخيه "احمد الصدر" لرئاسة التيار الصدري. 

وفي لبنان، ورث "وليد جنبلاط" زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي بعد اغتيال والده "كمال جنبلاط" في 16 مارس 1977م، وها هو يسلمها مؤخرا الى نجله "تيمور" لتأهيله الى خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وافساح المجال له لرئاسة الحزب في الانتخابات المقبلة. كما ورث "سعد الحريري" الزعامة السياسية بعد اغتيال والده "رفيق الحريري" في 14 فبراير 2005م وتولى رئاسة الوزراء مؤخرا للمرة الثانية. ولا ننسى دخول "ميشال عون" رئيس الجمهورية نادي التوريث السياسي، حيث سلم صهره "جبران باسيل" زعامة التيار الوطني الحر، على ان يتولى آخرون من العائلة مواقع نيابية وحزبية وسياسية أخرى لاحقا.

التوريث السياسي-الديني أصبح في الوقت الحاضر سرطانا ينخر جسد العالم العربي، حيث تحولت اغلب الدول العربية إلى إقطاعيات تابعة لحكام طغاة يعيشون بعقلية العصور الوسطى، ولا علاقة لها بالعصر الحديث. منذ سنوات طويلة وحتى وقتنا الحاضر، قدمت تقارير التنمية البشرية العربية توصيات وخلاصات لباحثين وخبراء عرب اضاعوا سنوات طوال من اعمارهم كي يقدموا للسياسيين من صانعي القرار في الوطن العربي ما يجب ان يسترشدون به في اتخاذ القرارات على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية. ولكن الذي حصل في الواقع ان الوطن العربي لم يتقدم على أي صعيد، بل العكس هو الذي حدث، حيث ان الأمور تنحدر نحو الأسوأ على كل الصعد بسبب تسلط وفساد انظمة الحكم سواء الجمهورية الصورية او الملكيات المطلقة. 

يقول الكاتب اللبناني "خليل أحمد خليل" في كتابه "التوريث السياسي في الأنظمة الجمهورية العربية": إنه لفهم هذه الظاهرة، يجب ابتداء الانطلاق من ظاهرة المجتمعات العربية السياسية معا، والتدقيق في مهنة كل من رجل الدين ورجل السياسة في المجتمعات العربية، فهناك عائلات ذات صلة بالسياسة ولو بالتبعية، وهناك عائلات سياسية ذات صلة برجال الدين ولو من قبيل الاستقطاب والاحتواء، فكلا الطرفين يسعى الى أن يفرض سلطانا مركبا في مجتمعه، سلطة في المجتمع، وسلطانا على الدولة.