-1-

يضيق الخناق يوما بعد يوم على واحدة من أعتى قوى الإرهاب والوحشية في التاريخ المعاصر، تلك هي منظمة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية داعش التي احتلت واحدة من أقدم حواضر العالم ( نينوى ) عاصمة إمبراطورية آشور، التي شهدت حضارات وأقوام سادت فيها ثم بادت، حتى نهضت الموصل عاصمة لمحافظة نينوى اليوم، وفي الأمس عاصمة لولاية الموصل التي كانت تضم كل كوردستان العراق اليوم، هذه المدينة المثيرة رفضت الانضمام لمملكة العراق، إلا بعد أن وعِد سكانها الكورد بمنحهم حق تقرير المصير فيما بعد، وبذلك أصبحت الدرة الثالثة في تاج ملك العراق بعد ولايتي بغداد والبصرة.

يبدو إن التاريخ يعيد نفسه أحيانا في حوادث تتشابه حد التطابق، ولعل ما يجري اليوم حول واحدة من اعرق حواضر الشرق ( الموصل ) يعيدنا إلى أحداث مرت بها هذه المدينة حينما كانت ثالثة ولايات بني عثمان في بلاد ما بين النهرين، ثم سقطت حينما شاخت إمبراطوريتهم بأيدي البريطانيين الذين حاولوا بعد ذلك ضمها إلى مملكتهم الجديدة، التي أسسوها من ولايتي بغداد والبصرة ووضعوا تاجها على رأس ابن الشريف حسين، رغم أن وارثي تاج الإمبراطورية العثمانية أصروا على مطالبتهم في إبقائها ولاية تركية، ورفضوا نتائج استفتاء أولي قامت به الحكومة العراقية، التي رفضت هي الأخرى استفتاءً أجرته السلطات التركية وحلفائها في الموصل، مما دفع البريطانيين إلى خيار عصبة الأمم التي أرسلت بدورها لجنة تحقيق دولية بتاريخ 27 كانون الثاني 1925م حيث بدأت بمشاوراتها واستقصائها للحقائق الديموغرافية وآراء الأهالي في تبعية ولايتهم، وقد ذكر خير الدين العمري وهو احد أعلام الموصل وشاهد عيان عاصر وعاش تلك الإحداث بدقائقها وتفاصيلها، حيث يقول في معرض حديثه عن مشكلة الموصل:"1"

( كان المرحوم فيصل والإنكليز والحكومة العراقية قد مهدوا طريق النجاح لحل المشكلة لصالح العراق "وقد سطر الصفحة الذهبية في هذا الاستفتاء أبناء الشمال الأكراد، فقد انضم الأكراد وفاز العراق.)

وعن موقف عرب الموصل كتب العمري يقول:"2"

( كان بعض العرب يتهربون من مواجهة اللجنة، محافظين لخط الرجعة فيما لو عاد الأتراك إلى هذه البلاد.. )

ويضيف العمري قائلاً:

( وقد تهافت بعض عرب الموصل على تقبيل أيادي جواد باشا الممثل التركي، وهتف آخرون بحياة مصطفى كمال (أتاتورك)، ولولا الشغب الذي أحدثه بعض المخلصين تخويفاً للباشا الموما إليه ليمتنع عن الخروج والتجول في المدينة لتوالت المخازي. )

أردت بهذه المقدمة التاريخية المقتضبة أن أسلط قليل من الضوء على تعقيدات مدينة تتنازع عليها أقوام ومذاهب ودول، تلك هي محافظة نينوى وعاصمتها الموصل ذات الثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وأراض شاسعة تمتد من أقصى شمال البلاد العراقية إلى أقصى شمالها الغربي في سنجار ذات الأغلبية الايزيدية الكوردية، هذه المحافظة كانت فيما مضى ولاية الموصل كما ذكرنا أعلاه تضم معظم إقليم كوردستان الحالي مع كركوك وكل ديالى وحتى تخوم تكريت وأطراف الكوت شرقا، لكنها فقدت معظم أجزائها قضما إداريا أو تغييرا ديموغرافيا خلال اقل من مئة عام، مدينة صعبة المراس معقدة العادات والتقاليد، متكبرة في طباعها، لا ترضى الأمور بسهولة، حتى قال عنها صدام حسين وهو يسترضي نائبه عزة الدوري، حينما ذهب إليه شاكيا أهل الموصل في إنهم لم يستقبلوه كما ينبغي ولم يصفقوا حينما يذكر اسمه، قال له صدام لا تزعل عليهم فالموصل ليست سهلة ولا تمنح ولائها بسهولة، اصبر عليهم وسترى(!)، الموصل مدينة شهدت في تاريخها أقسى أنواع العنف من السحل بالحبال خلف السيارات إلى تعليق الجثث على أعمدة الكهرباء، والاغتيالات العشوائية بعد فشل محاولة عبد الوهاب الشواف القومية ضد الزعيم عبد الكريم قاسم في عام 1959م، ثم ما تلى ذلك من انتقامات وحشية قامت بها ميليشيات الحرس القومي البعثي بعد شباط 1963م، ولا ينسى الموصليون تاريخهم الأقدم حينما حاصرهم نادر شاه الإيراني قرابة سنة كاملة مطبقا على مدينتهم حتى خلت من أي مأكل، فاضطر السكان إلى أكل العشب ولحوم القطط والكلاب والحمير، وما أشبه اليوم بالبارحة حيث لا مأكل ولا

مشرب والناس تموت جوعا أو عطشا أو قتلا في أيمن الموصل بعد ما يقرب من ثلاثمائة عام من حصار نادر شاه!

-2-

الموصل اليوم سلمت أمرها راضية مرضية لثلاث قوى رئيسية؛ إقليم كوردستان الذي سيطر منذ الساعات الأولى لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في نيسان 2003م على كل المناطق ذات الأغلبية الكوردية أو المسلوخة من اربيل ودهوك مثل سنجار وزمار ومعظم سهل نينوى ومخمور، وحكومة بغداد وجيشها الوطني حصريا، لرفض معظم أهالي المحافظة ومركز الموصل وممثليهم في اشتراك الحشد الشعبي ذو الأغلبية الشيعية المطلقة، إضافة إلى التحالف الدولي والأمريكان تحديدا، ويبدو إن القوى الثلاث قد وضعت خارطة طريق ونفوذ لها في مركز المدينة وأطرافها قبيل بدء العمليات العسكرية لتحريرها، بحيث تكون مناطق سنجار وحوض زمار سنجار وسهل نينوى ومخمور وأطرافه تحت نفوذ إقليم كوردستان بصيغة يتفق عليها لاحقا، بينما يكون مركز المدينة وأطرافها الجنوبية تحت نفوذ الحكومة الاتحادية، وتؤكد تسريبات مهمة جدا على أن تكون تلعفر وأطرافها جنوبا تحت نفوذ الحشد الشعبي، ويبقى المايسترو الأمريكي ضامنا لهذا الشكل من التوافق الأولي لحين البت في مصير الشكل النهائي للبلاد العراقية وخيارات الطبقة السياسية وربما الأهالي أيضا في إنشاء فيدرالية لغرب العراق ذي الأغلبية السنية، أو تشكيل إقليم نينوى واستفتاء أهالي الاقضية ذات الأغلبية الكوردية أو المسيحية في تبعية مدنهم، ويبقى الخيار الكونفدرالي يداعب أخيلة الكثير من الطبقة السياسية السنية والكوردية بما يضمن استقلالية حقيقية في اتحاد عراقي مع الشيعة، وفي هذا السياق سيكون شكل النظام الكونفدرالي العراقي ثلاثيا يضم مكوناته الأساسية وهي العراق الشيعي ويشمل كل محافظات الجنوب والفرات الأوسط ( البصرة والعمارة والناصرية والكوت والسماوة والديوانية والحلة وكربلاء والنجف ) والعراق السني ويشمل محافظة صلاح الدين ( باستثناء ما الحق بها من مدن وبلدات كانت تتبع كركوك إبان نظام صدام حسين ) والانبار ومعظم نينوى وأجزاء من كركوك وديالى، وكوردستان التي تتمتع باستقلالها الذاتي منذ ربيع 1991م، واستطاعت أن تؤسس خلال ربع قرن معظم مؤسسات الدولة الرئيسية بما فيها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومؤسسات الحكم الثلاث

منذ أن انتخبت برلمانها في 1992 وشكلت حكومتها الإقليمية التي حازت على قبول واسع في أمريكا وأوربا ومعظم البلاد العربية والدولتين الأكثر اهتماما بملفها وهي إيران وتركيا.

الأسابيع القادمة ستشهد بالتأكيد أحداث دراماتيكية في عملية التحرير، خاصة وان تنظيم الدولة (داعش) عمل في بيئة أنتجها نوري المالكي، دعت الأهالي في بداية الأمر لقبولهم كبديل لحكم دولة القانون، لكنهم وخلال أشهر قليلة اكتشفوا حقائق أخرى، أبعدتهم تدريجيا عن خيار التنظيم كحالة مستديمة للحياة، وبدأوا بفتح قنوات اتصال مع مفاصل مهمة من إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية، وقد اكتشف تنظيم الدولة الكثير منهم وحكم عليهم بالقتل، وبأساليب قاسية جدا لترويع الآخرين من التورط في التخابر مع الإقليم أو بغداد، ورغم ذلك نستطيع أن نستنتج بأن حكم نوري المالكي لثماني سنوات وتنظيم الدولة لما يقرب من ثلاث سنوات، غيّر بنية التفكير لدى أهالي الموصل وبقية المناطق التي احتلتها داعش، خاصة فيما يتعلق بموضوعة التقسيم والفدرلة التي أصبحت واحدة من أهم مطالب النخب السياسية والاجتماعية في الموصل، وحتى ينجلي دخان القنابل والصواريخ وتضع الحرب أوزارها وتبرد جروح أهل نينوى وموصلها، سندرك حينها إن من أسس سايكس بيكو وبعدها ضم ولاية الموصل إلى مملكة العراق أو تركيا تسبب في كل ما جرى لهذه المدينة ولكوردستان قبلها من مآسي وويلات، وقد حان فعلا أن يقول الأهالي قولتهم في تقرير مصيرهم برعاية أممية تحفظ لكل المكونات حقوقها وأمنها وسلامها ومستقبلها.

ـــــــ

المصادر والهوامش:

(1) ينظر نص التقرير في جريدة الموصل، العدد (944) في 7شباط 1925 علماً أن التقرير أكد على عروبة الموصل.

(2)للتفاصيل ينظر مؤلفه المخطوط: مقدمات ونتائج، جـ2 ص257-259