هذه ليست المرة الاولى التي يدعو فيها رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني لاستقلال كردستان، ويبدو انها لن تكون الاخيرة. سبق وهدد بارزاني بغداد في العديد من المناسبات بالانفصال عن العراق، ولكنه تراجع في الوقت الضائع قبل ان يقع الفأس في الرأس، ومن المرجح جداً ان يتراجع بارزاني هذه المرة أيضاً،خطوة أو ربما خطوتين الى الوراء، ويتنازل عن استقلال كردستان، تحت ضغوطات تركية إيرانية بالدرجة الاولى، ودولية بالدرجة الثانية.

الاستفتاء الكردي، رغم كونه حقاً مشروعاً، طبقاً لشرعة حقوق الانسان، الا انه يكاد يكون مرفوضاً من قبل الجميع. المجتمع الدولي، الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا، بغداد وطهران وأنقرة ودمشق، الكل لا يزال يعوّل على عراق موحد. الكل يحذر بارزاني من مغبة الاستفتاء الذي لن يكون على كردستان برداً وسلاماً. زد على ذلك اختلاف الأكراد فيما بينهم وعدم اتفاقهم على مشروع كردي موحد يحقق حلمهم في الاستقلال سواء داخل كردستان العراق حيث البرلمان والدستور معطلان، بسبب الخلافات الحادة بين المعارضة والموالاة، او خارجها حيث الصراع الايديولوجي المزمن بين أكراد بارزاني واكراد اوجلان.

التاريخ الكردي هو سلسلة متواصلة من حروب "الاقتتال الاخوي" والصراعات الدموية المزمنة بين الزعامات الكردية. 

تصويت الأكراد في ال25 من سبتمبر الجاري ب"نعم" لاستقلال كردستان وانفصالها عن العراق، لن يغير من واقع القضية كثيراً، خصوصا في ظل تمسك الجميع بوحدة العراق وإصرارهم على حل المشاكل والملفات العالقة(كالنفط والموازنة والبيشمركة والمادة 140) بين أربيل وبغداد بالحوار والتفاهمداخل البيت العراقي الواحد، كما جاء في مبادرة مبعوثي الدول العظمى الذين طالبوا بارزاني بتأجيل الاستفتاء.

طريق الأكراد الى الاستقلال لا يزال محفوفا بالكثير من المخاطر. المناطق المتنازع عليها وعلى رأسها كركوك، تعتبر احد اكبر العوائق التي تقف في طريق استقلال أكراد العراق. بغداد لن تتنازل بسهولة عن كركوك التي يعتبرونها الكرد "قدسهم"، فضلا عن ان عيون الجميع عليها.

استقلال الأكراد من وجهة نظر انقرة وطهران ودمشق ليس شأناً كردياً او عراقياً داخلياً، كما يعتقده البعض، وإنما هو شأن تركي وايراني وسوري بالدرجة الأساس، كونه يمس الأمن القومي لهذه الدول.

في آخر تصريح له، قال رئيس الوزراء التركي بنعلي يلدريم، أن "الإستفتاء المزمع عقده في شمال العراق هو قضية أمن قومي وأن تركيا ستتخذ أي خطوات ضرورية" واصفاً قرار بارزاني بعدم تأجيل الإستفتاء ب"الخاطئ جداً". 

 سبق وصوت الأكراد في استفتاء 2005 بشبه اجماع ب"نعم" لانفصال كردستان من العراق، ولكن لم يؤدِ ذلك الى نتيجة. 

سبق وهدد بارزاني تركيا بالتدخل في دياربكر مثلما تسمح تركيا لنفسها بالتدخل في شئون كردستان، ولكنه تراجع تحت ضغط تهديدات انقرة باستخدام القوة والتدخل العسكري في كردستان، لدرجة أصبحت الأخيرةتابعة اقتصادياً لتركيا أكثر من تبعيتها للعراق نفسه.

خطأ بارزاني الأكبر انه كلما ضاق الخناق عليه في الداخل الكردستاني يدير أصبعه نحو الخارج ويهدد بغداد بالاستقلال.

لا شك ان من حق الشعب الكردي، مثله مثل جميع شعوب الارض ان يقرر مصيره بنفسه و يختار العلاقة التي يشاءها مع بغداد او دمشق او طهران او انقرة، وان يعلن دولته المستقلة على ارضه التاريخية، اما يتحول شعار الاستقلال الى مجرد شماعة لتعليق فشل السياسات الكردية في كردستان العراق فهذا شأن آخر.

بدلاً من ركوب بارزاني هذه المخاطرة غير محسوبة النتائج التي ستزيد من طين كردستان العراق بلّةً، والسير بعكس اتجاه العالم، كان من الاولى به ترتيب البيت الكردستاني، وتوحيد الصف الكردي من الداخل، عبر تفعيل البرلمان والدستور المعطّلَين منذ حوالي عامين، بسبب رفض المعارضة تمديد فترة رئاسته لولاية رابعة، واستئثار حزبه بجميع موارد النفط وعائدات الجمارك فضلاً عن سيطرة عائلته على جميع مفاصل الاقتصاد في كردستان، كما يقول معارضوه. 

داخلياً، كردستان الان شبه دولة بوليسية، تحكمها ميليشيات الحزب الواحد والدين الواحد والعشيرة الواحدة، فضلا عن انها دولة مفلسة بكل المقاييس، في السياسة والاقتصاد والمال والاجتماع والثقافة والعلم. كردستان شبه دولة منذ أكثر من ربع قرن، لكنها تفتقر إلى أبسط مقومات الدولة، فلا مؤسسات ولا بنية تحتية ولا إقتصاد ولا جيش ولا مشروع وطني موحد.

حلم الدولة الكردية يجمع الأكراد، لكن الأحزاب والقبائل تفرّقهم.

خارجياً، العالم كلّه يرفض توقيت بارزاني في إعلان استقلال كردستان ويطالبه بالتراجع.

على الأكراد الإستفادة من دروس التاريخ. فمن السهولة بمكان حشد الجمهور الكردي للإستفتاء والتصويت ب"نعم" لإستقلال كردستان بإعتباره حلماً يوحّد جميع الأكراد في جهاتهم الأربع، لكن من دون الحصول على قرار أممي وتأييد دولي وموافقة من الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا،وتواصل وتفاهم مع الدول الجارة، لا يمكن للحلم الكردي أن يتحقق.

أمام بارزاني الآن خياران أحلاهما مرّ:

تحدي بغداد ودول الجوار والعالم والمعارضة في الداخل، بإجراء الإستفتاء وإعلان الإستقلال وتحقيق الرغبة الكردية في إنشاء وطن كردي، الأمر الذي قد يؤدي إلى إشعال حرب إقليمية غير محسوبة العواقب في المنطقة، قد تعيد القضية الكردية إلى المربع الأول.

أو التراجع وتأجيل الإستفتاء، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع شعبيته واهتزاز صورته وكاريزميته كزعيم قومي للأكراد.

استقلال الأكراد قادم لا محال، ولكن هل سيفعلها بارزاني كما خطب في الجماهير الكردية الغفيرة، رغماً عن إرادة الجميع؟

[email protected]