يمتلك عقل الانسان جدلية. جدلية العلم والدين، تتناسب مع الثقافة البيئية التي يعيش فيها هذا الانسان. والملاحظ انه لطالما ثار الانسان على الدين، اما على دينه، او مذهبه، او على دين الاخرين الذين لا يدينون بدينه. وبالتالي كان مصدر الكثير من الحروب والكوارث الانسانية، التي راح ضحيتها الالاف من البشر. هذه الثورات كان يقوم بها ولا تزال اصحاب الدين الشمولي، وهنا ليس المقصود بالثورة تصحيح المسار، وانما قد يكون العكس، هو تخريب الفكر وتحجيمه، مما يقود الى اثار سلبية مستقبلية على المجتمع ومن ثم على الانسانية، وقد تقوض ايضاً العلم الذي لم يتحارب الانسان يوماً بسببه، بل كان العلم والعلماء، وفي احيان كثيرة ضحية الدين. ومحاربي الفكر او الدين الشمولي، حملوا سيوفهم لنشر معتقداتهم بالسيف والقلم معاً. فلو القينا نظرة سريعة على العالم الغربي، وكيفية تغلغل المسيحية اليه، سنرى ان المسيحية وبعد ان كانت مضطهدة، استطاعت ان تنال اعتراف الامبراطورية الرومانية، عام 313 م في عهد الامبراطور قسطنطين، حتى عام 380 حيث اصبح الدين المسيحي دين الامبراطورية الرسمي، وبذلك انفتح الباب على مصراعيه امام رجال الدين للسيطرة على اوربا من خلال البدء باضطهاد الناس عن طريق ترهيبهم وترغيبهم، بعدما كانوا هم انفسهم عرضة للاضطهاد، قبل ان ينالوا اعتراف الامبراطورية، ليثبتوا لنا جدلية العقل الانساني على ارض الواقع، وصاروا يحاربون الفكر والفلسفة، والسيطرة على العقل، من خلال السيطرة على التعليم، وتطويعه لنشر الدين، باعادة صياغة العقول من خلال السطو على الفكر الثقافي الغربي. وقد تمكنوا من ذلك بعد ان انقسمت الامبراطورية الرومانية عام 395 م الى غربية وعاصمتها روما، وشرقية وعاصمتها القسطنطينية، واجتياح البرابرة لروما عام 410 م. ففي عام 529 م، وهي مرحلة مفصلية بالنسبة الى الفكر والثقافة الاوربية، اقفلت الكنيسة اكاديمية افلاطون في اثينا حيث وضعت الكنيسة يدها على الفلسفة الاغريقية، وسيطر الكهنة على التعليم والفكر والتأويل. وبدأ قلم الكهنة يعمل، تبعه السيف، وصارت اوربا جميعها تحمل السيف، ضد حاملي المذهب المخالف لمذهب الدولة، كما في حروب فرنسا للكاثارية، وضد الاديان الاخرى، كما في حروب اخراج العرب والمسلمين من اسبانيا، واتجاههم الى الشرق، لبسط نفوذهم في فلسطين. فكما هو معلوم ان الكنيسة استطاعت ومن خلال هذا النهج، نهج السيطرة على التعليم، واستخدام السيف، بالسيطرة على اوربا لما يناهز الالف عام، ظلت اروبا فيها قابعة تحت جنح الظلام، حتى تحررت من الكنيسة، بعد نهضة علمية وتنويرية.

اما شرقنا العزيز، فلم يرعوى من تجربة اوربا، بل نراه يخطو نفس الخطوات التي خطاها الغرب منذ اكثر من الف وخمسمئة عام، ليعيد التاريخ نفسه، ولكن بوجه عربي اسلامي. فالحركات الاسلامية، تنشط على قدم وساق، تزيد من معاناة شعوب الشرق، وتدمي بين الآونة والاخرى شعوب الغرب، مكفرة من ليس مع فكرهم واجندتهم، ومقسمة المجتمع الى مجتمع صالح وآخر باطل، والى دار كفر ودار ايمان، فها هي مصر قد تم شطر فكر المجتمع فيها، واستطاع الدين ان يستغل الديمقراطية، ويكرسه لمد جذور التخلف، وبالتالي ليصبح قادرا بث نفوذه بسهولة وباسم الديمقراطية، ليس حبا بالديمقراطية، وانما للالتفاف عليها، وتغطية اجنداتهم بها، ولإشعار المؤمنين بالديمقراطية بان الدين هو ديمقراطي، وذلك من خلال استغلال العدد الكبير، من المتخلفين، والذي يتم استقطابهم من خلال التأثير الروحي، وليس العلمي او المنطقي، واستغلال المقدس.

 لقد تم دمج المقدس في الفكر الشرقي ليزيده تأرجحاً ما بين القلب والعقل، على عكس الغرب الذي تحرر من هذه الأرجوحة، باختيار العقل، والكف عن فرض الايمان بالقوة، وفصل الدين عن الدولة، وبذلك انطلق بعلمية جعلته يقود العالم بحضارة صارت تعرف بالحضارة الغربية. هذه الحضارة اخذت تقفز بخطوات واسعة وكبيرة من خلال التطور التكنولوجي المتنامي بسرعة مذهلة، سرعة تثير الاعجاب، وتفرض استخداماتها على المدنية، وفي جميع بقاع العالم، عابرة فوق حواجز الدين والمذهب والقومية.

ان الانسان مقسم فكريا ما بين القلب والعقل، وهذه طبيعة جدلية قائمة منذ خلق الانسان، هذه الجدلية يحتاجها الانسان لتطوير قدراته وفي نفس الوقت ليشعر بإنسانيته، وقد تتناغم بصورة صحيحة ان استطاع توظيفهما بطريقة تجعله يتقدم الى الامام بدلاً من دفعه الى الخلف والتخلف عشرات السنين.