أعتقد بأن كل الحكام الدكتاتوريين سواء كانوا في الشرق أو في الغرب هم حفنة من الحمقى.. فهم حين يتوهمون بأنهم أحكم الحكماء، وبأنهم هبة الله على الأرض وهدية السماء للبشرية، وبأن لا أحد يعلو عليهم أو يسبقهم في الفكر والثقافة وبأنهم فريدو عصرهم وزمانهم، فهذا أسميه الحمق بعينه..

فلو لم يكن صدام حسين أحمقا وإستمع الى مستشاريه وضباطه ووزرائه، لما إرتكب حماقته بغزو الكويت. وزاد في الحمق نقطة حين زج بجيش لايلقى سوى رغيفين من الخبز يوميا في أتون حرب غير متكافئة مع جيوش وأساطيل ثلاثين دولة بالعالم. فلولا تلك الحماقات لما حصل له ولعائلته ما حصل. إعدامه هو، ومقتل ولديه، وتشرد بناته، ودمار بلده الذي لم يستفق من كارثة الكويت الى يومنا الحاضر.

ولو لم يصرخ القذافي عبر وسائل إعلامه " من أنتم؟" وإحتكم الى العقل والمنطق لما أخرجوه من صندوق المجاري ملطخا بدمائه، ولجنب بلده الدمار والخراب الذي نراهما اليوم.

الدكتاتور يحيط نفسه بهالة من القدسية، وهذه مظاهر خداعة، فليست هناك قدسية للبشر، ولذلك حين رأيت لوائين من البيشمركة وهم يحرسون 200 كيلومتر من جانبي الطريق الواصل بين مدينة أربيل والسليمانية أثناء مرور موكب سيارات مسعود بارزاني، قلت مع نفسي" وماذا إذا تدحرج حجر كبير من تلة على الطريق ووقعت على سقف سيارته المارة هناك" فمن يحميه من قدر الله؟ ومن يعصمه إذا حان وقت الرحيل؟.

قبل اسبوع هبت دول العالم تناشد البارزاني لكي يتراجع عن إستفتاء إقليم كردستان، وأرسلت عشرات الوفود الى مقره تطالبه بالعدول عن هذه العملية وتعده بالمساعدة والمساندة لحل مشاكله مع بغداد وإنتزاع حقوق شعبه من الميزانية وتحقيق شراكة حقيقية بين أربيل وبغداد.. وصرخت جميع الأحزاب والقوى المحلية للعدول عن هذه المغامرة، وأدلينا نحن الكتاب والمثقفين بدلونا في المناشدة مبينين له تداعيات هذه العملية المرفوضة من المجتمع الدولي، ولكن البارزاني سد أذانه عن الدعوات المخلصة وأبى وإستكبر ولم يستمع سوى لمجموعة من مستشاريه الحمقى، فخاض المغامرة وأحرق آخر أوراقه وهي ورقة الإستفتاء والإنفصال، وهاهو اليوم يعود الى بغداد ولكن بدون أية أوراق ضاغطة..

قبل خمس سنوات كتبت مقالا بعنوان (إقليم بابان) تحدثت فيه عن تأسيس إقليم ثان في كردستان يضم كلا من محافظات ( السليمانية وكركوك وحلبجة وإدارتي كرميان ورانية )، وكتبت ذلك المقال تحت تأثير الإجراءات التعسفية لنظام مسعود البارزاني الذي أقام خطا فاصلا بين منطقتي أربيل والسليمانية عبر حدود سيطرتي ( ديكله وآلتون كوبري )، وهي الحدود التي كرست واقعا تقسيميا واضحا عبر السنوات الممتدة من 31 آب 1996 والى يومنا هذا، وتجزأت كردستان الى منطقتي نفوذ إحداها يتحكم بها بارزاني وحزبه في أربيل ودهوك، والأخرى تحت نفوذ الإتحاد الوطني في السليمانية وكركوك وحلبجة.

وقد ناقشت هذا المقترح مع العديد من القيادات الكردية، وبينت بأن الدستور العراقي لايعارض قيام مثل هذا الإقليم، وبأننا سنتخلص بذلك من مؤامرات وخيانات وفساد سلطة البارزاني، وسنتمكن بالميزانية المرسلة إلينا من بغداد أن نبني هذا الإقليم من جديد. ورغم أن معظمهم رحبوا بالفكرة لكنهم رفضوها خوفا من أن يوصموا بالخيانة والسعي لتمزيق إقليم كردستان، رغم أن التقسيم كان واقعا مفروضا على أية حال.

وأظهر الإستفتاء الأخير هذا الإنقسام بشكل أكثر وضوحا، حيث قاطعت نسبة 50% من مواطني السليمانية الإستفتاء ورفضت نسبة 19% من هذا العدد الإنفصال عن العراق.. أما في محافظة حلبجة فقد كانت النسبة مماثلة حيث بلغت نسبة المشاركة 50% ورفض الإستقلال بنسبة 22% وهذه الأرقام المخيفة دفعت بحزب بارزاني الى أن تشن حملة إعلامية مكثفة ضد سكان حلبجة بل تجرأ أحد كتابه المرتزقة الى الدعوة لقصفها مرة أخرى بالأسلحة الكيمياوية لأنهم لم يصوتوا لإستفتاء البارزاني!

هذه الأرقام تثبت بأن نصف سكان مناطق السليمانية وكركوك وحلبجة لايريدون دولة تحت حكم آل بارزان، وعليه فإن التقسيم قائم بالفعل، ولعل أسباب هذا الإنقسام هي الأداء السيء لحكومة البارزاني وفشل سياساته الإقتصادية وتضييقه على الحريات وجرائمه بقتل الصحفيين والمثقفين الكرد بمناطق نفوذه، وكذلك الإختلافات الكثيرة بين منطقتي السليمانية وأربيل، سواء من ناحية الذهنية الجماعية، أو من ناحية إدارة الحكم التي نراها أقرب الى الديمقراطية في منطقة السليمانية، وأكثر قمعية في المناطق الخاضعة لحزب بارزاني.

الآن وقد أعلن مسعود البارزاني نفسه دكتاتورا على كردستان وشكل المجلس السياسي الأعلى- كردستان العراق وهو يماثل " مجلس قيادة الثورة " بزمن البعث، ينبغي أن يكون للشعب وللقوى السياسية الكردستانية برمتها موقف تجاه السير بالإقليم نحو الدكتاتورية المقيتة. فقد حان الوقت لكي نتحدث بصراحة ونضع أصابعنا على الجرح ونعترف بوجود هذا الواقع التقسيمي الذي كرسه الإستفتاء وسياسات البارزاني بشكل جلي، ونفكر فيما ينبغي أن نفعله، وأعقتد بأن هناك خياران فقط، فإما أن نصحح مسار العملية السياسية في الإقليم ونجعل نظام الحكم فيها أكثر ديمقراطية وإحتراما للقانون وندعم مؤسساته الشرعية لكي يتعايش الجميع في ظل قيادة كردية مخلصة توحد الأمة وتحقق لهم الرفاهية والأمن والإستقرار، وإما أن يتكرس هذا الواقع ونمضى بدلا من تأسيس الدولة القومية الموحدة، الى تأسيس إقليم آخر يضم كلا من كركوك والسليمانية وحلبجة، ولينام كل واحد على الجنب الذي يريحه، وكفى الله المؤمنين شر قتال.