فتحت قضية استفتاء كردستان الباب أمام الكثير من الإثنيات والأعراق الموجودة في البلاد العربية والتي كانت مُغَيَّبة على الأقل (سياسياً) طوال العقود الماضية واعتُبِرَت أقليات، لتتكلم عن تاريخها ووجودها وأصولها الأولى وأحقيّتها في تلك الأرض؛ في الوقت الذي كان تاريخُها مُغَيَّباً كلياً ثقافياً ومجتمعياً وأيضاً عن المناهج التعليمية وكتب التاريخ والجغرافيا والقومية والسياسة، ولم يُسمَع لهذه الإثنيات صوت في ظل الأنظمة الديكتاتورية أو مطالب على الأقل بما يخصّ تغييب تاريخها، لكن حين طالب الكرد باستقلالهم؛ الجميع أعاد طرح ماضيه المُغيَّب ثقافياً، وأصوله، وقال نحن موجودون قبل الكرد ونحن أصحاب الأرض ولا يحق للكرد بما يطالبون! حيث أثارت مسألة استقلال الكرد اهتمام وتخوّف الجميع دون استثناء. 

وإذا ما عدنا للتاريخ، لوجدنا أنّ وجود الكرد في الشرق العراق وسوريا وفي إيران وتركيا أيضاً، يعود لما قبل الميلاد بأكثر من خمسمائة عام على الأقل كما يذكرهم التاريخ وكما يأتي ذِكرهم لدى مؤرِّخين يونان وغيرهم منذ ما يقارب ألف عام قبل الميلاد. الكرد هم أحفاد الميديين، والذين ذُكِروا في السجلات الآشورية أيام الملك الآشوري شلمنصر الثالث، اعتُبِروا قبيلة من قبائل الميديين الست آنذاك، وقد أُطلقَ عليهم اسم الآريين لأنّ الميديين من الشعوب الآرية والتي كانت تقطن إيران آنذاك. 

ولكيلا يتحول الموضوع فقط لسرد تاريخي لأعراق وقوميات رغم أهميته لأنّ قضية الأكراد قبل أن تكون قضية سياسية هي قضية تاريخية أيضاً؛ فقد تعرّض الكرد للاضطهاد كثيراً منذ مئات السنين وللإبادة وآخر مجزرة لهم تاريخياً كانت في ظل حكم صدام حسين للعراق عندما أبادهم فيما سُمِي مجزرة الأنفال والتي راح ضحيّتها أكثر من مئتي ألف كردي، وقصفهم بالكيماوي في حلبجة. عاش الكرد بإقليم فيدرالي وحكومة ذاتية بموجب الدستور العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين، لكن بوجود خلافات دائمة ومتراكمة مع حكومة بغداد والتي حسب أصوات كردية كثيرة اشتكت من حرمانهم من الرواتب وحاربَتْهم سياسياً واقتصادياً ورغم قتالهم لداعش، قرّر الكرد إجراء الاستفتاء لتقرير المصير، فوقفت الأغلبية ضدهم تخوّفاً من الانفصال والذي يعتبره الكثيرون بداية تقسيم لكل البلد وليس في صالح البلاد لا في الوقت الحالي ولا في أي وقت لا سيما أنّ البعض يتخوّف من كونهم في البداية قد يكونوا محمية خارجية ليستطيعوا الاستقلال علماً أنّ كل الدول العربية محميات خارجية لدول كبرى إذا ما أردنا التصنيف. في حين مقارنةً بالعراق المُفَكَّك؛ فقد نجح الكرد بإقامة نظام ديمقراطي علماني ورفعوا مستوى مدينة أربيل اقتصادياً وعلمياً وسياسياً فكان لهم دوراً إيجابياً واضحاً في عملية الازدهار حيث عُرِف عن الكرد علمانيّتهم وانفتاحهم وتنظيمهم. 

بعد بدء الحراك مع بداية ما سُمّي بالربيع العربي أيضاً تمّ تخوين الكرد من كافة الأطراف حتى في المرحلة التي كانوا يقاتلون فيها داعش رغم أنهم وبعد كل ما مرّوا به وعانوه لم يحصلوا على حقوقهم السياسية والوطنية في ظل حكم البعث في سوريا والعراق، وقسم كبير منهم حتى في فترة ما لم يحصلوا على جنسيات لبلد إقامتهم، حيث أَلصَق البعث العروبة بالدولة والإسلاموية وتمّ تهميش كل مَن هو غير عربي كالمكوِّن الكردي مثالاً وليس حصراً، وحاولوا طمس ثقافتهم حتى أنهم حُرِموا لفترة من تعلّم لغتهم واضطروا لفعل هذا سراً؛ في الوقت الذي كان من المفروض أن يُعتَبروا جزءاً من المكوِّن المُتعدِّد لمنطقة سوريا والعراق. هذه العقلية البعثية العروبية الإقصائية تحمِلها اليوم فئة كبيرة من شعوب المنطقة وأغلب التيارات والاتجاهات السياسية، والنتيجة أنّ الأغلبية التي وقفتْ ضد الفيدرالية في سوريا واعتبرَتْها تقسيما (وهي ليستْ كذلك)؛ هي نفس العقلية التي وقفَتْ ضد الاستفتاء الأخير لاستقلال كوردستان العراق والذي عبّر عن إرادة الأكراد ولكن اعتُبِر هذا الاستفتاء غير وطني بأهداف مشبوهة وبتعاون إسرائيلي. 

نلاحظ دائماً أنّ كل حركة أو حراك يحدث في الشرق يقولون إنّ وراءه أميركا وإسرائيل وإنهما المستفيدان من نجاحه، وأيضاً كل حراك يحدث يقولون هذا مشروع صهيوني لتمزيق الأمة! لننظر في هذا الكلام، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو أولاً هل كانت هذه الأمة موحّدة كي يمزّقَها مشروع الأكراد؟ أوَليستْ أصلاً أمّة مُنقسِمة على ذاتِها سياسياً ومذهبياً وعِرقياً؟ ثانياً، ولنفرض أنّ إسرائيل تدعم الاستفتاء في سبيل الاستقلال لكردستان؛ لماذا لا تقطع الحكومات العربية الطريق على إسرائيل وتتعاون مع الكرد بمنحهم هذا الحق بدلاً من أن تكسب عِداءهم؟ ثالثاً والأهم، هل كانت الحكومات العربية حكومات علمانية ديمقراطية وكان الكرد أو غيرهم من الأقليات ينعموا بممارسة حرية وديمقراطية ومع هذا يريدون حكما ذاتيا أو حتى انفصالا؟ التخوُّف من إسرائيل ثانية أو ثالثة لن يكون إلاّ نتيجة لفقدان الحريات وحكم الأنظمة العربية القامعة والفساد الأخلاقي والاصطفاف السياسي والتعصّب الذي أوْصلَتْ البلاد والشعوب له وليس باستقلال كردستان. 

إلى الآن يبدو أن أميركا رافضة للاستفتاء أو حتى لدولة كردية في العراق، بل أميركا أشرفت على دخول الحشد الشعبي إلى كركوك ونسّقتْ مع حكومة العبادي لانسحاب البيشمركة من المدينة دون مقاومة، وهذا يعني تخلّي واشنطن عن حلفائها الكرد لصالح إيران التي تتحكم بالعراق، وهي أي إيران تَعتبر مع تركيا الكرد أعداءهم التاريخيين وتُناهِضان إيران وتركيا مشروع الانفصال بشدة تخوّفاً من تحرّك الأكراد هناك. من هنا، لنلقي نظرة سريعة على حال العراق إذن كوننا نتكلم عن التخوُّف والقلق الذي رافَق موضوع الاستفتاء في كوردستان العراق، فنجد مثلاً النزاع الحاصل الواضح بين السنة والشيعة، فالحكومة الشيعية تحاول تهميش السنة واتّهامهم بالإرهاب وأنهم يؤيدون داعش وأنهم حزبيون ينتمون لحزب البعث أي مع صدام حسين وحدث وما زال يحدث الكثير من الإشكالات بينهم. والسنّة بالمقابل يعتبرون الشيعة كفّارا وخونة وعملاء لإيران حيث الحشد الشعبي إيراني ويتّهمونه أنه وُجِد للقضاء على السنّة. بينما الشيعة والسنة معاً يتّهمون الأكراد والمسيحيين بالانفصاليين وبالضيوف كون المسيحيين أقلية ويطالبوا مع الكرد بدولة علمانية وحكم مدَني لا ديني وقد يتّفق البعض منهم بشكل عام مع الكرد على حكم فيدرالي مع الأكراد، أو في أنّ الأكراد يريدون حكما ذاتيا. هذا فضلاً عن الفساد المستشري في العراق وحكومة الطوائف والأحزاب التي تحكم العراق، وبسبب الفساد، يقوم بعض موظفي الحكومة بسرقة المساعدات الانسانية التي تأتي عن طريق المنظمات الانسانية من طعام، ثياب، قرطاسية، أغطية، أدوية، وغيرها.
وبينما يتكلّم البعض بكل حماس وروح بعثية وأهداف يظنّون أنها وطنية عن الأمة العربية والشعب الواحد وعدم شقّ الصف العربي ورفض إقامة دولة كردية والتمسّك بحدود سايكس پيكو، تلك التي ندبوا كثيراً من أجلها واليوم يتمسّكون بها، مع هذا نجد التقسيم من العرب أنفسهم حيث تمّ استخدام العروبة والإسلاموية للتصنيف والفرز على أساسهم، فيفرزون بعض العرب الشعب ويقسّمونه بتصنيفه هذا كردي وهذا تركماني، سرياني آشوري أو أرمني، ويعتبرون العربي هو صاحب الأرض والحق والأصل في البلاد. نأتي على التصنيف المذهبي والديني، فالسنّي يعتبر الشيعي كافر، العلوي نصيري، والاسماعيلي والدرزي مرتد وكافر، والمسيحي نصراني وكافر أيضاً، عدا عن فئة المُلحِدين غير المعروفة إحصائياً، والحق والأصل والأرض للسنّي، وفي ذات الوقت الشيعة ينظرون للسنّة بذات النظرة ويَعتبرون هم الأصح في الدين وأنهم مظلومون على مدى التاريخ. تستمر أيضاً التقسيمات والفرز ضمن الطائفة الواحدة بين الوهابي والاخونجي والتكفيري وغيرهم، وكل فئة تعتبر نفسها هي الأحق وهي صاحبة الأرض. 

إنّ هذا الفرز والتشرذم والعقلية الإقصائية لم تترك لأيّ مُكوِّن حالة من الرضى والأمان أو الحلم بالعيش المشترك في ظل دولة علمانية تحفظ حقهم جميعاً، فحتى الأحزاب وما سيبقى منها بالمرحلة القادمة ما بعد الحرب هو ما تبقّى من هذه الأحزاب بعد شرذمتها وتفكيكها لميلشيات ستكون ضمن تسويات سياسية لاستعمالها في مشاريع لمصالح دولية وإقليمية. إنّ أفضل مشروع لسوريا والعراق هو الفيدرالية (وهي لا تعني التقسيم)، وبالدستور يكون حكم پرلمان وضمن الپرلمان العمل على منع أي مشاريع ضد الأقلية أو الأكثرية ليكون عيشاً مشتركاً ومواطَنة حقيقية ومساواة في الدستور في كل شيء بالحقوق والواجبات. الفيدرالية في ظل حكم علماني ومجتمع مدني ستحفظ حق جميع المكوّنات ولن يكون هناك مكانا لتسييس الدين أو هذا التقسيم القائم أصلاً على أساس عِرقي واثني وديني ومذهبي. وفي العراق من حق الكرد تقرير مصيرهم ضمن دولة كردية ما دام العراق لا يحمي المكونات الاخرى حيث يعتبر السنّة والأكراد أن العراق تحوّل لدويلة شيعية تابعة لطهران على حساب حقوق وحريات الكرد والسنّة والمسيحيين. العراق بات ملعباً لطهران ضد المشاريع الأميركية وخاصةً بعد اعلان ترامپ عن استراتيجيته التصعيدية ضد إيران ولهذا المعركة بين واشنطن وطهران تشمل كل الشرق الأوسط، كما إنّ الصراع القادم سيكون بين الإسلاموية السياسية المُنهَكة وبين العلمانية الحقيقية ومدَنية الدولة والحقوق، حتى في ظل كل هذه الترهّلات اليوم والفشل السياسي والأخلاقي، لكن هذا الصراع سيكون القادم ولا بد أن ينجح بوقت ما حيث الإسلام السياسي أو تسييس الدين مشروع حروب وانقسامات حتى ضمن الطوائف المسلمة نفسها بين سنية وشيعية. العولمة اليوم وغداً سترفض كل هذا ولن تقبل أي أحزاب إقصائية ولا أي مشاريع إسلامية سياسية أو ديكتاتوريات حاكمة؛ وحده قانون المواطنة والمساواة بين كل المكونات والنظام العلماني المُنفصِل عن كل ما هو ديني سيجمع كل المكونات على مشروع وطني حقيقي فيه نُهوض البلاد. 

كاتبة سورية