هناك سؤال يطرح نفسه من وقت الى آخر، هو: لماذا نجحت الديمقراطية في المجتمعات الأوروبية الغربية والمجتمع الأميركي واليابان وأستراليا، ولم تنجح في باقي مجتمعات العالم الأخرى؟ والاجابة عن هذا السؤال تتطلب البحث أولا في التركيبة الاجتماعية لمجتمعات هذه الدول، ومدى التطور الذي لحق بهذه المجتمعات عبر التاريخ. والمعلوم ان المجتمعات البشرية بشكل عام بدأت على شكل تركيبات عائلية وقبلية وطائفية ودينية وإثنية وغيرها، ثم تطورت عبر حقب التاريخ الطويلة لتصل الى ما وصلت اليه في الوقت الحاضر على شكل دول ذات حدود جغرافية محددة وأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية.
لكن التطور الاجتماعي الذي لحق بالمجتمعات الأوروبية الغربية والمجتمع الأمريكي واليابان وأستراليا استطاع تفكيك البنية العائلية الضيقة واضعاف دورها وحتى الغاء هذا الدور، حيث ان الدولة المركزية قامت بدورها في الحلول محل البنى التقليدية الضيقة في المجتمعات من عائلة ممتدة او قبيلة او طائفة، وحيدت الدولة نفسها عن تلك البنى وترسخت مستقلة عنها، بحيث اقنعت الافراد والمجتمعات معا بأنها القادرة على تحقيق مصالحهم وتجسيد تطلعاتهم الشخصية. وهي القادرة على الحلول محل العائلات في دورها وحتى الانتماء اليها، وأكدت صيغة الدولة المركزية خلال تطورها مسؤوليتها عن توفير لوازم الحياة الضرورية لهؤلاء الافراد. وأصبحت قيمة الفرد تحدد على أساس كفاءته الشخصية وقدرته الإنتاجية وسلامة انتمائه الى مجتمع الدولة، وكذلك تتعامل الدولة معه على أساس حقوقه كإنسان وليس حقوق العائلة التي ينتمي اليها ولا وزنها الاجتماعي. وبهذا ضمنت الدولة ولاء هذا الفرد اليها بعيدا عن العائلة او القبيلة او الطائفة.
اما المجتمعات التي ما زالت في طور النمو والتي يطلق عليها تسمية الدول النامية، وهي أكثرية مجتمعات اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، فلم تشهد تطورا اجتماعيا يمكن مقارنته بالتطور الذي لحق بالمجتمعات الأوروبية الغربية والمجتمع الأمريكي والياباني والاسترالي، وذلك بسبب تخلف أنظمتها السياسية الذي انعكس سلبا على أداء أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية الهشة. وحيث ان هذه الدول لم تستطع توفير الكثير من الضروريات اللازمة لحياة افراد مجتمعاتها، ظل الافراد يعتمدون الى حد كبير على العائلة او الطائفة او القبيلة في تصريف الكثير من أمور حياتهم اليومية. وهذا بدوره عزز ولاءهم لهذه التركيبات والترسبات الاجتماعية غير المتطورة على حساب الولاء للوطن.
ومن الاعتقادات الخاطئة السائدة في المجتمعات النامية هو تقديم الديمقراطية كوصفة طبية سحرية كفيلة بشفاء أي مجتمع من مشاكله ومما يعاني منه. فقد اخذت تلك المجتمعات بالصيغة الديمقراطية كنظام وعمل سياسي، معتبرة إياها حلا سحريا لمشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإذا بها لم تكن ذاك الحل السحري للكثير من مشاكل تلك المجتمعات. امام هذا الوضع تحول الاخذ بالديمقراطية في جانبها السياسي (جانب تجسيد السلطة واحتكارها من قبل النخب السياسية او العسكرية او العائلية) الى مشكلة بحد ذاتها تضاف الى مشاكل تلك المجتمعات.
ويعتقد الكثير من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع ان نجاح الديمقراطية في المجتمعات النامية لن يتحقق إلا بتحييد الدولة وإبعادها عن تأثير وسيطرة المصالح التي تمليها قوى الترسب القبلي او الطائفي او العشائري. ان تحييد الدولة يعني إخراجها من دائرة تجاذب المصالح لهذه الفئة او تلك بحيث تبقى دولة الضمانات لكل المواطنين، فتقدم الخدمات لمن يستحقها وليس لمن تريده السياسة اكان مستحقا ام غير مستحق. وهذا يسمح بالتالي بتوسيع رقعة مغادري دائرة قوى الترسب لصالح الدولة المركزية، فيرتبط عندها المواطن بالدولة مباشرة وليس عن طريق القبيلة او الطائفة او العشيرة، على الأقل في مجال الضمانات والمصالح الحياتية العائدة له، وبهذا يتحول ولاء المواطن الى الدولة بدلا من قوى الترسب المجتمعي.
ومن الواجبات الملقاة على عاتق الدولة في هذا المجال هو اطلاق عملية واسعة النطاق لتعميم التعليم والمعرفة والتثقيف في أوساط المجتمع، الأمر الذي يوسع آفاق الوعي لدى الافراد بأن العالم أوسع من عالم القبيلة او الطائفة او العشيرة او العائلة الضيق، وان الوطن اكبر وهو الهدف الذي يستحق العمل من اجله.