أعود إلى ما بدأت به هذه الحلقات: وقوفنا مع الكرد سابقا والآن في حلمهم بدولتهم الخاصة المستقلة،فهو مطلب مشروع وعادل لا ينبغي أن ينكره كل ذي ضمير إنساني! 

هناك شعوب لا يتجاوز عددها مئات الآلاف أو حتى عشرات الآلاف ولهم دولهم الخاصة، فلماذا يحرم الكرد من دولة وطنية لهم وعددهم في منطقة الشرق الأوسط قارب الخمسين مليونا؟ 

ولكن من هو الذي يمنع قيام دولة الكرد؟ هل هم العراقيون عموما؟ لا طبعا!

يمكن إيضاح ذلك في سببين رئيسيين: 

الأول: هو معارضة تركيا وإيران لها وبإصرار مصيري لا يقبل الحوار أو المساومة، كلاهما قالا؛ أنهما في حالة قيامها سيحطمانها على الفور. وهذا يعني أن الكرد سيخسرون أرواحهم، والعراق سيخسر أرضه؛ بما فيها الموصل التي لم تنته أطماع تركيا فيها حتى اليوم! 

السبب الثاني، يعود لطريقة متزعمي الكرد في طرح وإدارة قضيتهم، حتى ليمكن القول أنهم أداروا قضيتهم العادلة بطريقة غير عادلة ولا متوازنة! وهم يصمون آذانهم عن أية نصيحة أو نقد، بل سريعا ما يلقون أصدقاء الشعب الكردي في خانة أعدائهم لكلمة مخلصة لم ترق لهم! وهم يتحدثون عن كردستان الكبرى منذ الآن وخريطتهم السرية والعلنية تظهرها وقد ابتلعت أجزاء هامة حساسة وحيوية من الدول المحيطة بهم بحثا عن النفط أو منفذ بحري لم يمتلكوه على مر تاريخهم! وقد كان أسلوبهم التوسعي في العراق مرعبا ، وتوقيت طرح مطالبهم وإجراءاتهم فيها كثيرا ما كانت غير مناسبة لظروف كثيرة! وتحشيدهم قوات بيشمركة وأسايش بأحجام تضاهي ما لدول كبيرة ويوحي بتوجههم لحروب وثورات دائمة، كل ذلك يجعل تركيا وإيران في قلق شديد فيواجهانهم باستعمال القوة، معتقدين أن دولتهم لو ولدت ستكون قوة المثل والرمز الذي يحتذى لا من الكرد في هذين البلدين وحسب بل من شعوب أخرى آذارية وتركمانية وعربية وغيرهم!

لماذا تجاهل مصطفى البرزاني حقيقة أن تركيا وإيران هما من تحولان دون قيام دولة الكرد؛ وأشعلها حربا طاحنة من الجبال إلى السهول ضد العراقيين وضد الكرد أنفسهم ؟ أغره أن شاه قد مده بالسلاح والمال؟ ألم يدرك أن الشاه ليس غبيا إلى الحد الذي يسمح له أن ينتصر؟ وإنما هو فقط استعمله للضغط على العراق لينتزع منه ما يشاء وما يطلب من أرض ومياه داخل العراق و أفلح في انتزاع نصف شط العرب ثم تحالف مع بغداد ضده فانهارت ثورته وبيشمركته وذهب مريضا إلى أمريكاحتى رحل عن دنيانا .

لقد ذهب ضحية هذه الحرب مئات الآلاف بين قتيل وجريح من العراقيين عربا وكردا وفي النهاية لم تقم دولة الكرد ولن تقم في المدى المنظور ، ترى إذا كان البرزاني لم يعرف أن السياسة هي فن الممكنات فماذا كان يعرف من السياسة؟ 

ما ذنب العراقيين في ذلك؟ لماذا حملهم المتعصبون الكرد وحدهم ما يسمونه غمط حقهم في قيام دولتهم! لقد حصل الكرد في العراق على حقوق وامتيازات لم يحصل عليها أشقاؤهم في تركيا وإيران ولا في أي مكان يقيمون فيه بتجمعات كبيرة مستقرة؟

سيقولون أنهم حصلوا عليها بفضل ثورتهم المسلحة! ولكنهم كانوا قد ثاروا في الأربعينات في تركيا وأقاموا دولة صغيرة ثائرة في الجبال وانهارت، وثاروا في إيران وكونوا جمهورية مهاباد ثم باعها ستالين بشحنات من براميل النفط وامتيازات دولية في بولندا ، ولم يحصلوا في هاذين البلدين على حقوق كالتي لهم في العراق، فهم في تركيا يسمونهم ظلما أتراك الجبال، وفي إيران يضطهدونهم طائفيا لا قوميا وحسب! 

كان ثمة قاسم مشترك في كل دولهم السابقة: المراهنة على يد الأجنبي الغريبة التي ما أن تنسحب حتى ينهار كل شي ء! حدث هذا لهم مع شاه إيران ومع أمريكا في تجارب مريرة! 

لقد أحرز الكرد هذه المكاسب في العراق بقدر ما انخرطوا في العمل السياسي العراقي ، وبقدر ما كانت القوى السياسية العراقية أكثر نضجا وعقلانية وتحقق شيئا من التوازن في حاجات القوميات والأديان والطوائف. أما الهيمنة على المناطق باسم المتنازع عليها لاحقا وشهوات التوسع فهذه لم تكن حقوقا مكتسبة شرعا وهي قد تمت إما بالقوة وفرض الأمر الواقع ، أو عبر صفقات طائفية عنصرية!

كثير من الكرد أو غيرهم يعتقدون أن العراق مستفيد من بقاء الكرد وأرضهم قسرا ضمن دولته، والحقيقة أن العراق هو المتضرر الأكبر من هذه القضية، فلو تتبعناها 

وطريقة معالجتها من الجانبيين الكردي والعراقي الحكومي؛ نجد ظلها أو شبحها وراء كل هذه المآسي والكوارث التي حصلت للعراق وأهله في المائة سنة المنصرمة، ما يؤكد أن الإنجليز والفرنسيين قد أفلحوا في زرعها لغماً فتاكاً في جسد العراق ‍ فهي قد أوقعت فيه من الأذى والدمار ما يفوق كل ما وقع له أي صراع أو حرب خاضها أو فرضت عليه في تاريخه الحديث كله! 

لقد كانت المعول الأول الذي راح يعمل لهدم الدولة العراقية ومساهما فعالا في العديد من الانقلابات المدمرة، واعتبارا من عقد اتفاقية الجزائر عام 1975 بوساطة بومدين وهندسة كيسنجر والتي أدت إلى انهيار حركتها المسلحة بعد أن قطع الشاه إمداده لها بالسلاح والمال، ثم الحرب مع إيران التي تورط بها صدام في محاولة يائسة للتخلص من التزاماته الثقيلة في اتفاقية الجزائر،ثم غزوه للكويت، فالحصار، فالاحتلال الأمريكي في كل هذا نجد القضية الكردية حاضرة صارخة الألوان!

لقد دعوت في مقالات سابقة ،وأظل أدعو للاستجابة لحق الكرد في تقرير مصيرهم! وأن يمنحواالمحافظات التي حددت لهم في بيان آذار 1970 مع أية أرض أخرى هي حقهم ويحددها حكماء في التاريخ والجغرافية السياسية! ليقيموا دولتهم عليها وتوقع معاهدة معهم ترسم الحدود بشكل نهائي لا يجوز فيه لأي من الطرفين العودة للمطالبة بأي أرض أو حقوق جديدة! 

وهذا رأي كثير من العراقيين سواء أعلنوه أو أضمروه خشية اتهامهم بأنهم يفرطون بوحدة العراق بينما حين نتحدث عن وحدة العراق وسلامة أرضه علينا أن نتحدث أيضا عن وحدة الإنسان العراقي وسلامة روحه وجسده! ما معنى أن نعز التراب والحجارة ونسكت عن تحطيم الإنسان والتفريط بروحه وجسده؟ كم من العراقيين على مدى عقود طويلة قتلوا أو سجنوا طويلا وانتزعت منهم بيوتهم ونفوا نتيجة أوضاع لو تتبعت مسارها نجدها قد تداعت من طرق خاطئة في حل القضايا الكبرى ومنها القضية الكردية؟

فهذه القضية لم تجلب للعراق سوى نزيف الأرواح والدم والثروة ووجع الرأس، ولا يلوح في الأفق موعد لنهايتها!

ولكن الأمر لا يتعلق بدعواتنا أو صلواتنا، فحتى لو افترضنا أن المسئولين عن الحكم في العراق قد اعترتهم صحوة ديمقراطية وإنسانية عالية ومنحوا الكرد أرضا لدولتهم فإن إيران وتركيا ستتصديان لها عسكريا وسياسيا! الترك والإيرانيون يريدون إبقاء قضية الكرد في حالة سبات أبدي ملقيين على العراقيين وحدهم التكاليف الدموية والمادية والمعنوية لذلك! 

وها هي اليوم أضحت لعبة بيد دول المنطقة يصفون بواسطتها صراعاتهم في المنطقة سواء في العراق أو في سوريا!

لماذا تدخلت إيران مع جناح الطالباني مؤخرا في النزاع مع البرزاني؟ هل لسواد عيون العراق؟ لم لا تعيد للعراق نصف شط العرب المنتزع ، ومجاري المياه الأخرى المحولة لأراضيها وتكف عن إلقاء نفاياتها في المياه العراقية إذا كانت حقا تريد لأرض وماء العراق أن يكونا للعراقيين؟ إنها توسعنفوذها في العراق وتفتح طريقا لإمبراطوريتها الناهضة إلى المتوسط! وإذا مضى العراقيون في مجاراتها بذلك فسيكونون كالمستجير من الرمضاء بالنار! لقد سكتت أمريكا عن ذلك، أتريد معاقبة البرزاني لأنه أغضبها في إجراء الاستفتاء وتوسعه على الأرض أكثر مما يجب؟ أم أنها أجلت معركتها مع إيران لحين الانتهاء من داعش وترتيب أوضاع المنطقة في سوريا ولبنان؟ 

 

تلك هي بعض التعقيدات والتداعيات الخطيرة جدا التي تجرها قضية يسوسها متطرفون متعصبون من كل الجهات، ينقلون بحجتها وباسمها معاركهم إلى أرض العراق!

وستزداد تعقيدا! فلم تعد تركيا وإيران وحدهما اللاعبان الماكران في ذلك، فأمريكا وإسرائيل وروسيا والاتحاد الأوربي وهؤلاء كلهم يمكن أن يظهروا للكرد وجها ويخفون وجوها أخرى! وهم إذا أرادوا أن يبقوا قضية الكرد نائمة تحججوا بمادة في القانون الدولي تنص على حق الدول في الحفاظ على كياناتها وحدودها بشتى الوسائل، وإذا أرادوا إشعالها تحججوا بحق تقرير المصير! 

 

وبالطبع سيتحدث العراقيون أيضا أن حق تقرير المصير لا يعني دائما الاستقلال بدولة خاصة، وإنه يتعلق بشعب مستعمر من قوة أجنبية غاشمةويخص شعبا له حدود تاريخية معروفة معترف بها لا من يتمدد كيف يشاء متجاوزا على أرض الآخرين! قضايا كثيرة معقدة ومتشابكة تجعل الحلم الكردي يتعثر ويتعطل رغم إنه في جوهره يظل باقيا كقضية عادلة تتعلق بإرادة شعب كبير تعذب وعانى طويلا ، وهم عليهم قبل غيرهم إدراك أن عدالة قضيتهم تقتضي منهم أن يطرحوا مطالب عادلة لا يشوبها مطلقا أي أإجحاف أو طمع بأرض الآخرين وحقوقهم! 

 

لم استعرض وقائع قديمة إلا لأن الماضي كما يقولونإذا أهملته فأنه سيطلق نيران مدافعه على الحاضر والمستقبل ليذكرك بنفسه! ما يهمنا اليوم مستقبل العراق ودور الكرد في صنعه ليكون خيرا لهم وللعراقيين! فلا ينبغي أن يكون ما حدث سببا لبدء شوط جديد من التناحر والكراهية والحروب التي شهدنا ويلاتها ونتائجها الفاجعة! 

 

نحن اليوم أحوج من أي وقت مضى للأخوة العربية الكردية، وليس أمام طلائع الشعب الكردي سوى النهوض بحركات مدنية ديمقراطية بعيدا عن النزعات القومية المتعصبة والتحالف مع أشقائهم في أرجاء العراق من العرب والتركمان والآشوريين والكلدانيين والمندائيين والأزيدين لبناء عراق جديد مزدهر اقتصاديا وروحيا تقوم دولته على الديمقراطية والحرية والاتحاد والمساواة بين أفراده جميعا!