&

في حي اسکان غربي بغداد، حيث کان بيتنا هناك في عقد الستينيات من الالفية الماضية، کنا هناك رجل بدين ولکن شکله غريب و يحمل على کتفه عتلة بدائية لجعل السکاکين حادة، هذا الرجل کان يمر في فترات متقطعة من زقاقنا أو الازقة الاخرى القريبة منا، فکان الاطفال يجرون في أثره وهم يصيحون بأعلى صوتهم باللهجة البغدادية الدارجة:(مو بي، بيکم)، وهم کانوا يرددون نفس هذا الکلام الذي کان الرجل يردده وهو ينهر الاطفال، وقد علمت من والدي حينها بأن الرجل کان يقصد من کلامه أن"المشکلة ليست بي، وانما بکم"، فهو وکما يقول المثل کان رجلا على باب الله ولکن الاطفال کانوا يشعرون بلذة شبه سادية من تعذيبه نفسيا بالجري خلفه و ترديد کلامه الذي کان منطقيا و صحيحا، فالمشکلة کانت في الاخلاق و التربية التي تلقوها الاطفال وقتئذ من عوائلهم کما کان ذلك الرجل المسکين يقصد على وجه التحديد.

منذ 11 شباط1979، عندما أطل الخميني بعبائته السوداء على طهران وهو محاط بمجموعة من المعممين و الملتحين، دخلت إيران في واحدة من أغرب مراحلها التأريخية، وعلى الرغم من إن إيران قد شهدت مراحل غريبة و شاذة تأريخيا، لکنها لم تمر بهکذا مرحلة فريدة من نوعها، بحيث تصبح أکبر مشکلة للشعب الايراني و شعوب المنطقة و العالم، فالجميع يعاني من النظام السياسي الذي أعقب نظام الشاه، ومع إن نظام الشاه کان يشکل مشکلة لشعبه"بسبب نهجه و طابعه الدکتاتوري" و کذلك مشکلة"محدودة" لشعوب المنطقة لکونه کان يمثل دور الشرطي الامريکي في المنطقة، بيد أن نظام الجمهورية الاسلامية الذي خلفه و بإعتراف الشعب الايراني و قواه المعارضة قد صار أسوء من نظام الشاه بکثير فهو يکاد أن يقوم حتى بعد الانفاس وقد لاأکون مبالغا و مغالطا عندما أجد إمکانية سحب مسرحية"الفيل ياملك الزمان"لسعدالله ونوس على ماقد جرى للشعب الايراني بين هذين النظامين، أما بالنسبة لشعوب المنطقة، فإن هناك إجحاف کبير جدا في مقارنة الدور السلبي المحدود للنظام السابق بدور النظام الحالي الذي صار أحد قادة الحرس الثوري المطلوب على قائمة الارهاب، حاکما مطلقا لأربعة عواصم عربية!

ماهو السر الذي جعل إيران الخميني، أو بتعبير أکثر دقة إيران نظام ولاية الفقيه أخطر على بلدان المنطقة من النظام الملکي السابق و أقوى تأثيرا منه؟ قطعا السر معروف ويکمن في الاسلام الذي رآه العالم مجسدا في العمامة السوداء و عباءة الخميني و مجموعة اللحى السوداء للدائرة التي کانت تحيط بآية الله العجوز، خصوصا عندما أطلق الخميني يومئذ شعاره:(لاشرقية لاغربية جمهورية اسلامية)، وبعدها بدأت إيران تهرول سريعا نحو مرحلة صار رجل الدين الحاکم المطلق فيها بمثابة(ولي أمر المسلمين) و(نائب المهدي المنتظر) والاخير لکونه وفق المذهب الجعفري خليفة الله و نائبه على الارض، فإن الولي الفقيه في إيران يعتبر تلقائيا خليفة و نائبا لله!!

الشعب الايراني الذي هرول سريعا خلف الخميني ظنا منه بأنه سيصنع له الغد و المستقبل الافضل و يجعله على أحسن الحال، يلعن اليوم، ذلك اليوم الاسود الذي هلل و رحب فيه بعودة الخميني و التصويت لنظام ولاية الفقيه، حيث إستبدل الفيل الوحيد للشاه بأعداد کبيرة من الفيلة التي تصول و تجول في سائر أرجاء إيران لأنها"فيلة الله"!! نعم هذا هو منطق النظام الحالي، وإن قانون"المحاربة"، والذي يضع کل معارض للنظام في خانة المحارب ضد الله، يجسد ذلك، بل وإن الخميني قد &قام بتطبيق قانونه الغريب هذا أمام العالم کله في صيف 1988، عندما قام بإصدار فتوى بإعدام الالاف من السجناء السياسيين في فترة قياسية لم تتجاوز الثلاثة أشهر، وهٶلاء السجناء الذين کان الکثير منهم قد أنهى فترة حکمه أو کان يوشك على إنهائه، جاءت الفتوى لتلغي الاحکام القضائية و تستبدلها بحکم الموت لمجرد إنهم يعتنقون أفکارا ليست تتفق مع مبادئ و أسس نظام ولاية الفقيه، ولحد يومنا هذا لايزال المجتمع الدولي لم يحدد موقفا من هذه المجزرة التي وکما وصفتها منظمة العفو الدولية وقتها بمثابة"جريمة ضد الانسانية".

الخميني الذي أدخل إيران و المنطقة و العالم کله في مرحلة حساسة جدا أسست لأمور و مسائل لم تکون موجودة في المنطقة قبل ظهوره و إعلانه جمهوريته الاسلامية، وفي مقدمة تلك المسائل التطرف الديني و الارهاب، خصوصا وإن سلسلة العمليات الارهابية التي ضربت لبنان و الکويت و السعودية و الارجنتين خلال أوائل الثمانينيات، حملت کلها بصمات جمهورية الخميني، لکن السٶال الاهم الذي يجب طرحه هنا هو: قوة الخميني و نظامه من بعده کانت ولازالت مستمدة من الدين الاسلامي، فهل إن المشکلة في الاسلام؟

الاسلام ليس کأي دين عادي، بل هو أشبه مايکون بمدرسة& ثقافية فکرية عامرة و زاخرة بالکثير من الافکار و المفاهيم و المبادئ المتباينة، ويعتنقه أکثر من مليار انسان، هذه المدرسة التي أنجبت أجيالا من المفکرين و العلماء و الفلاسفة خدموا الثقافة و الفکر الانساني و أثروه، واجهت مراحل عرضية سلبية ناجمة عن مزاجية و أهواء متمردين على الحکام المسلمين بحيث سادت خلالها مفاهيم و أفکار طارئة وشاذة تميل الى العنف و الدموية المفرطة کما مع حرکة الخوارج و ثورة الزنج و حرکة القرامطة و الحشاشين، لکن هذه الحالات کانت و ستبقى إستثناءا و القاعدة الاساسية ستبقى کما هو الاسلام المتنور المنفتح على الآخر و القابل به، وإن التيارات المتطرفة في العصر الحديث والتي أبرزها تيار"ولاية الفقيه" والذي هو بالاساس نظرية عليها الکثير من الاشکالية و المٶاخذات لدى الشيعة أنفسهم ناهيك عن الرفض المطلق للمذهب السني لها، الى جانب تيارات أخرى نظير السلفية الجهادية و القاعدة و داعش و الميليشيات المسلحة التي تتبع تنظيميا و عقائديا نظام ولاية الفقيه، ولاريب من إن هذه التيارات المتطرفة التي هي أشبه بحالات وباء طارئة في المفرق الاسلامي، لابد لها أن تزول و تنقرض تماما کشبيهاتها عبر التأريخ و نقصد الخوارج و الزنج و القرامطة، فالمشکلة کل المشکلة في هذه التيارات وإيران ولاية الفقيه من ضمنها أما الاسلام فإنه برئ من ذلك براءة الذئب من دم يوسف.